عندما يَقفُ المرءُ في صيدنايا يَشعرُ كأنَّه على…



2013-08-24

كلمَةِ غبطةِ البطريرك يوحنا العاشر في صلاة الشكر - صيدنايا


إخوَتيْ وأحبّتي:


أوافيكُم اليومَ إلى صيدنايا لألتقيَ وُجوهاً نيّرةً التحفَتْ بِغيْرةِ الربِّ ونفوساً خيرةً تسيّدها حبُّ القريْبِ وعشْقُ الوطَنِ. أوافيكُمْ الآنَ إلى صيدنايا الهاجِعةِ قرْبَ شاغورةِ مريمَ العذْراءِ والمُستظلّةِ بِحُمرةِ رِداءِ القديسِ جاورجيوس والمتفيِّئَةِ تحتَ جناحِ الشاروبيمِ. آتيكم إلى صيدنايا المستدفِئَة بشفاعة مار بطرس والمُمْسِكَةِ بيَمِيْنِ مار تُوما التيْ لَمَستْ جنْبَ الرّبِّ. أوافيكُمْ إلى صيدنايا التيْ خَلَّدتْها كُتبُ التاريخِ وصفحاتُ الرّحّالَةِ وقصصُ الأعاجيبِ. أوافيْكمْ، لأنحَنِيَ وإيّاكُمْ أمامَ سيّدةِ صيدنايا وأطلُبَ مِنها أنْ تَفْتقِدَنا وتمْسَحَ نفوسَنا بمَسْحةٍ من بَهاءِ ابنِها القدُّوسِ فينجلِيَ إنسانُنا الداخليُّ جمراً متّقِداً بحبِّ اللهِ وَالإِنْسانِ والوطَنِ. جِئتُكم إلى هذا الدّيرِ الشريفِ لأطلُبَ صلواتِ رَاهبَاتِهِ ودُعاءَ زوّارِه، جِئْتُكُم لأطلُبَ إليكُمْ أنْ تَصَلُّوا مِنْ أجْلِ يُوحنّا العاشِرِ الذي عرفَ واختبَرَ أنّ صلواتِ الرهبانِ ودُعاءَ المؤمنين تَطْرُقُ باب الرحمةِ الإلهيَّ وتستمْطِرُ منْ لَدنِ العليِّ جداولَ الرأفَةِ الرَّبّانيةِ.

عندما يَقفُ المرءُ في صيدنايا يَشعرُ كأنَّه على نوافذِ السّماءِ. صيدنايا هي نافذةُ السماءِ على دِمشقَ. وفيها يصعَدُ بَخّورُ أبنائها حامِلاً ضَرَعاتهم وصلواتِهم. صيدنايا هي الجامِعَةُ الكلَّ إلى واحِدٍ. وهيَ التي تَجمعُ الجميعَ بكلِّ أطيافهم في سوريا وفيْ لُبنان وفي الأردنِّ وفي العالمِ أجمَعَ. تجمعُهم إلى واحدٍ أمامَ عتباتِ شاغورَتِها وتتلقَّف تضرّعاتِهم وتَرفعُها إلى ربِّ السمواتِ. في صيدنايا خرجَ يوستينيانوس ليتصيّدَ غزالاً. لكنّهُ لمْ يعرِفْ يوماً أنَّ صيْدَ الغزلانِ سيَقودُ إلى صَيْدِ النّفوسِ المتلظّيَةِ حُباً بالرب؛ لمْ يعرِفْ يوماً أنَّ المحَجَّ الذي أمَرَ بِبنائِه في مكانِ ظُهُورِ العذراءِ سيُمسيْ مكاناً يَتصيَّدُ نفوسَ التائقينَ إلىْ وَجْهِ العليِّ القديرِ، مكاناً يتصيّدُ أوجاعَ النّاسِ ويقْتَنِصُ دموعَ مآقيْهِم ويَضَعُها تحتَ أقدَامِ العذراءِ مريمَ، مكاناً يتصيَّدُ قلوبَ مَنْ أحبّوا مريمَ البتولَ فأفاضَتْ عليْهِم منْ يَنْبوعِ أعاجيْبِها وبَلْسمَتْ جراحَهُم بِمَرْهَمِ عَزائِها.

نَعَمْ، يا أبناءَ صيدنايا، إِنّنا نعتزُّ بكُم، نعتَزُّ بِصلابَة إيمانِكم وشموخِ نُفوسِكم ونفخرُ بتلاحمِ قُلوبِكم وعِظَمِ محبَّتِكم وتآلُفِ بيوتِكم. وها أنْتم تُعبِّرون اليومَ عنْ هذا الإِرثِ الضارِبِ في التّاريخِ باجتماعِكم كلِّكُم كَعائلةٍ واحدةٍ تعبّرُ عن فرْحَتِها بالتفافها حولَ سيّدِ السلامِ والمحبّةِ. اثبَتُوا على ذلك ولا تَخافُوا. حماكُم الربُّ والسيدةُ العذراءُ.

آتيكمُ اليومَ في هذه الظروفِ الصّعبةِ التي تَعْصِفُ بِبلادِنا. آتيكم لأفْتقدَكُم وأُبلْسِمَ جِراحَكم وأشدّدَ عزائِمَكُم.

نحنُ مِنْ كَنيْسة ِأنطاكية نَجِيْءُ. نحنُ منْ رَوْنقِ تاريْخِها نأتي. نَحنُ منْ وُعورَةِ ماضِيْها نوافيْ لنقوْلَ للعالَمِ بأنْ، منْ أرضِ أنطاكيةَ، خرَجَ ذلك الصّوتُ التجسّديُّ للكلمةِ، أعْنيْ بولسَ الرّسولَ، فَلَفَّ الدُّنيا وزَنَّرَها بتعاليمِ السيّدِ المسيحِ لَهُ المجدُ. منْ أنطاكيَّتِنَا خرجَ ذلك الصوتُ الصارخُ إِلى بريّةِ الأمَمِ ليُخبِرَ الدُّنيا بِرمَّتِها عن طفلِ بيْتَ لحْمَ وعنْ عجائِبِ ابنِ النّاصرةِ. منْ تُرابِ هذِهِ الأرضِ المُبارَكَةِ خرَجَتْ نسَمَةُ الرّوحِ إلى المَسْكونَةِ لِتقولَ لَها أنَّ شاولَ اهتدى علىْ أسوارِ دمشقَ ومنْ ميناءِ أنطاكية خرجَ بولساً إلى بحارِ المَسْكونةِ وعواصِمِها ليقولَ لها أنَّه لفَظَ إنسانَهُ العتيقَ على أسوارِ الشّامِ واقتبلَ مِنْ حنانيا سِربالَ المسيحِ.

وفي أرْضِ الشّامِ الطّيّبةِ عرَفنا نَحنُ المسيْحيّيْنَ طيْبَ العلاقَةِ وسُموَّها مع إخْوتِنا المسلمينَ. فيهَا عرفْنا أُخُوَّةً لا تفْصِمُ عُراها وُعوْرَةُ التّاريْخُ ولَا تَقْطَعُ أوتارَها أشراكُ الطّامعيْنَ. فيْ هذِهِ الأرضِ المُبارَكَةِ وَحَّدَنا وإِخوَتَنا المُسلمينَ التَّوقُ لِرِضى الرَّحمَنِ والتماسُ مَلكوتِهِ السّماوي. نحنُ نرفضُ أنْ يتَسربَلَ أيٌّ كانَ سِربالَ الدِّيْنِ السَّمِحِ ليبُثَّ الفرقَةَ بيْنَ أطيافِ البَلَدِ الواحِدِ ونَأْبى أنْ يَتلَطّى أيٌّ كانَ ورَاءَ عَباءةِ الدِّيْنِ ليبُثَّ الفِرْقةَ بيْنَنَا، مُسْلمينَ ومَسيحيِّينَ. نحنُ وأَنتُمْ، إخوتِيْ المسلميْنَ، رِئَتَا الشرقِ الجَميْلِ الذيْ يُشرِقُ بَهَاءً بِتضافُرِ رِئَتيْهِ ويتنفَّس الصّعَداءَ بِهِما سويّةً. نَحنُ وإِيّاكُم مِنْ أَديْمِ هذِه الأرضِ المقدّسةِ التيْ تَضمُّ إلى ثَنايَاها قبرَ يوْحنّا المَعْمَدان إلى جانِبِ ضريحِ صلاحِ الدّيْن. نحنُ وأنْتُمْ منْ هذِهِ الأرْضِ التيْ تُعانِقُ جسَدَ ابنِ الوليْدِ إلى جوارِ اليانَ الحمصيِّ. وَكُلُّ هذا لأقولَ، أنّنا وإيّاكُمْ منْ طيْنَةِ هذِهِ الأرضِ جِئْنا ولِغَدِ هَذا الوَطَنِ الجميلِ نَشْبكُ اليدَ باليَدِ.

وَمِنْ هُنا، منْ صيدنايا، منْ جِوارِ دمشْقَ، أقوْلُ للسّوريّيْنَ جَميعاً وللعالَمِ أجْمعَ؛ سوريا عَطيّةُ اللهِ لنا فالأجْدرُ بنا أنْ نحْفَظَهَا كَقرَّةِ العيْنِ. سوريا لمْ تُخلَقْ لِتَصطَبِغَ بِدَمِ أبْنائِها بلْ لِتَصْبغَ العَالَمَ كلّهُ بِقوّةِ السّلامِ الذيْ سادَ رُبوعَهَا وَبِحِبْرِ الأبْجَديّةِ التيْ انطلَقَتْ منْ رُبُوعِها. سوريا لَمْ تُوجَدْ لتَغْمُرَ بتُرابِها أجسادَ أبنَائِها المقتَتِليْنَ بلْ لِتغمُرَ العَالَمَ بوَميْضِ النُّورِ الذيْ انبثَقَ منْ أرْجَائِها، مُشِعَّاً على المَسْكونَةِ قُوةَ حضارةٍ وَعراقَةَ تاريخٍ. سوريا مدْعوَّةٌ بِمَنْطِقِ الحِوارِ والحلِّ السّياسيِّ السِّلْميِّ أنْ تجتازَ أزَمَتَها وتعودَ بهيّةً كما كانَتْ، عَرُوساً مِنْ عرائِسِ هذا الشّرقِ.

أخْتُمُ كَلامي مُصلياً مِن هذا الدّيرِ المُقدّسِ وَمنْ مقامِ الشاغُورةِ الشّريفِ في صيدنايا وَأَقُولُ: ربِّ بارِكْ تُرابَ هذا البَلدِ العزيزِ وأَتْرعْ قلوبَ أبْنَائِهِ مِنْ نُورِكَ الخاصّ. ربِّ افتقِدْ مِنْ عَلْيَاءِ مَجدِكَ أخوَيْنا المطرانين بُولُس ويوحنّا وسائرَ المخطوفين، وَبَلْسِمْ قلُوبَهُمْ وقُلوبَ مُحبّيْهِم بِرَحيْقِ الصّبْرِ والرّجاءِ، ورُدَّهُم إليْنا سالمِيْنَ معافِيْنَ. ربِّ أفِضْ فيْ قلُوبِنا سلامَك الإلهيَّ وَسرْبِل رُبوعَنا بِحضُورِكَ السماويّ. ربِّ احفَظْ سوريا وأرْضَ سوريا وأَعِدْها مَرْتَعاً للطمأنينةِ والسّلامِ، وبارِكْ منْ صيدنايا، جارةِ لُبنانَ، أرزَ لبنانَ الشَّامِخ وازرَعْ في قُلوبِ أبنائِهِ فيضاً مِنْ جزيْلِ صلاحِكَ. لتَبقى سوريا وليَبْقى لبنانُ مَحطَّ المجْدِ على ضِفَّةِ المتوسِّط ولِيَنْعَما دوماً بأَمنٍ ودَوامِ يُمْنٍ. رَبِّ بارِكْ خليْقَتَكَ كلّها وأعْطِ عالَمَكَ أجْمعَ أنْ يعيشَ في سَلامٍ ووئامٍ.

قوّاكُم ربّيْ وباركَكُم بِفَيضِ صلاحِهِ وأجزَلَ عليكُمْ مِنْ مَعِيْنِ فَلَاحِهِ، هو المباركُ إلى الأبدِ، آمين.