عندما يشكرُ الإنسان الله على نعمه له، لا يتسرّبُ…



2014-01-12

عظة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر p1
في الكاتدرائيّة المريميّة،

 

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين

ما سمعناه اليوم يا أحبّة هو مقطعٌ من رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس. يقول فيه الرسول إنّ الرّبَّ أنعمَ علينا بِنِعَمٍ وعطايا ومواهبَ متعدِّدةٍ وكثيرة، لذلك جعل البعضَ رُسُلاً، والبعضَ مُعلِّمِين، والبعضَ مبشِّرين، والبعضَ واعظين. وهذه المواهب والنعم الكثيرة هي –بحسبِ تعبيرِهِ حرفيًّا- هي "لتكميلِ القدّيسينَ وَلِعَمَلِ الخدمةِ وَلِبُنيانِ جَسَدِ المسيح". وهذا كلامٌ في غايةِ الأهمّيّة، يُعَلِّمُنا وَيُذَكِّرُنا بِأُمورٍ أساسيّةٍ في حياتنا في الكنيسة:

أوّلاً: أنَّ الرّبَّ الذي ما زلنا في بركات أعيادِه، أي عيد الميلاد ورأس السنة والغطاس أي الظهور الإلهيّ، والذي كشف لنا ذاتَهُ مِن أجلِ خلاصِنا وتقديسِنا ومن أجل كمالِنا، أحبَّ الإنسانَ بِهذا المقدارِ وَأَعطاهُ مواهبَ كثيرةً ونِعَمًا غزيرة.

لذلك نرى ونلحظ في حياتنا اليوميّةِ وفي بيوتنا، في أعمالِنا وأشغالِنا أنّ لِكُلِّ إنسانٍ ميلًا إلى شيءٍ معيّن.

لقد أُعطيَ لِكُلِّ إنسانٍ أن يُفلِحَ وَيَبْرَعَ في مجالٍ مُختلفٍ عن سواه. وهذه نعمةٌ من الرّبّ لِتَكميلِ القدّيسين. أي إنّ هذه النِعَم المختلفة، المتعدِّدةَ والمتنوِّعة، لم تُوجَدْ كي نتحاسَدَ أو نتخاصم. إذ في أحيانٍ كثيرة، عندما يرى الواحدُ مِنّا نفسَه مختلفاً عن الآخر، ينسى أنّ هذا الاختلاف عطيّةٌ مِنَ الرّبّ، وأنّه للتكامُلِ والبُنيان، فَيَضعُفُ ويسقط في أنانيّتِه وأهوائِه، ولا ينظرُ إلى الإنسان الآخر بعين الرضى ولا بعين الفرح والغبطة، وإنّما بعين الحسد والأنانيّة. ويتساءل في ذاته، لمَ لستُ مثله؟ ولمَ هو أحسن منّي؟

لماذا يتفوّقُ عليّ في الصوت؟ ولماذا يعيشُ بطريقةٍ لا أستطيع أنا أن أعيش مثله؟...

وهكذا لا يشكر اللهَ على النعمة التي هو فيها، فكلُّ واحدٍ منّا بالنعمة التي هو فيها والموهبة التي لديه يشكر الرّبّ، ويرى ما هو جيّدٌ عنده وفي داخله.

وعندما يشكرُ لا يتسرّبُ إليه الحسد.

لأنّ الحسد يُعمِي بَصيرةَ الإنسانِ وَيُفقِدُهُ رُؤيةَ الجَيِّدِ والحَسَنِ الّذي أعطاهُ إيّاه الرّبّ، فينظرُ إلى الآخَرِ ولا يَفرَحُ لِنُمُوِّه وتقَدُّمِه، لا بل يتضايقُ ويحسدُ حتّى جارَهُ وأخاه.

هذه المواهب والنعم المتعدّدةُ المُعطاةُ لِكُلِّ واحدٍ مِنّا هي لتكميلِ القدّيسين، أي للتكامل لا للخلاف والشقاق والنزاع. نَعَم، لذلك لا يستطيع الواحدُ مِنّا أن يَجمع كُلَّ شيءٍ في ذاته، فَلِكُلٍّ مِنّا نِعمةٌ ومواهبُ معيّنة، وعندما نَجمَعُ هذه النِّعَمَ والمواهبَ بين هذا وذاك، نتكامَل، ويَغتَني كُلُّ واحدٍ مِنّا بإخوَتِه.

ثانياً: عَمَلُ الخدمة؛ ما يَحصلُ أحياناً أنّ ربَّنا يُعطي موهبةً أو نعمةً معيّنة.

ومقابل هذه النعمة أو الموهبة التي أَلْحَظُها في داخلي، أرى في نفسي الفهمَ والمعرفةَ فأتكبّرُ وأنتفخُ وأُهمِلُ الموهبةَ وأكتفي بالتكبّر والافتخارِ بما لَدَيّ، ولا أقوم بأيّة خدمة. Homlies-Pics-013

وهنا نتذكّرُ مَثَلَ الوزنات الذي أعطى فيه الرّبُّ لِكُلِّ واحدٍ وزنةً، والذي كان عنده وزنةٌ واحدةٌ قام بِطَمرِها وخبّأَها ولم يَقُمْ بأيِّ جهد.

وهذا يحدث في كثيرٍ من الأوقات، ولكنّنا نتغافلُ عنها أو نفتخر بها ونتكبّر، ولَرُبّما يقولُ البعضُ مِنّا: أنا أفضلُ من الآخرين، وهم ليسوا مثلي، وهكذا أبقى كما أنا، وهذه خطيئة كبيرة.

لذلك فالنعمة التي يعطيك إيّاها الله ليست كي تنتفخ وتستكبر وتستصغر الآخر الذي لا يملكها. إعلمْ أنّ لديه موهبةً أخرى، وأنَّ ما لديكَ وما لدَيه هو مِن أجلِ الخدمة.

أنتَ تخدمُ في هذا المجال، وغيرُك يخدم في ذاك المجال، وكلّ واحدٍ يقوم بعمل الخدمة بالنعمة المعطاة له.

ثالثاً: يقول الرسول: وذلك لبنيان جسد المسيح أي الكنيسة.

هكذا تُبنى الكنيسة، لأنّ النِّعَمَ والمواهبَ المختلفةَ التي يُعطينا إيّاها الرّبّ، عندما تكونُ للتكامل وليس للخلاف والشقاق والنزاع والصراع، تبني جسدَ المسيح وتبني الكنيسة، وآنذاك يكتمل البنيان. وهكذا يكون كلٌّ مِنّا حَجَراً مِن حجارة الكنيسة، يُشاركُ في الخدمة والعمل من خلال النعمة والموهبة التي أعطانا إيّاها الرّبّ.

ويَختم الرّسولُ ويقول: وهكذا، إذا كُنّا كذلك، ننتهي إلى الوحدة في الإيمان، ونكون عائلةً واحدةً، جسداً واحداً، كنيسةً واحدةً، بوتقةً واحدةً، ونصلُ إلى الإنسان الكاملِ على مقدارِ مِلْءِ قامةِ المسيح.

نعم، هذا هو البُعدُ الأخيرُ والهَدَفُ الأخيرُ مِن تَجَسُّدِ الرّبِّ وَمِن عَمَلِ الفِداءِ الّذي قامَ بِه، وَمِنَ المعموديّة، وَمِن كُلِّ عَمَلِ الفِداءِ الّذي قامَ به إلى أن رُفع على الصليب وداس الموت وقام من بين الأموات وأَرسل الروح القدس. كلُّ ذلك أتمّه حتّى نعيش نحن في الطهارة، حتّى نقتنيَ هذا الرّبَّ المحبَّ الذي كشَفَ نفسه لنا حتّى نُتِيحَ له المجالَ أن يسكن فينا وأن تتقدّسَ حياتُنا من خلاله، وآنذاك نكون هذه الحجارةَ الحيّةَ، هذه اللّبنةَ في الجسد الواحد الذي هو جسدُ المسيح.

فليقوِّنا الرّبُّ جميعاً أن نتقبّلَ بالفعل هذه النعمة، حتّى يكونَ كُلٌّ مِنّا ذاكَ الحجرَ الحيَّ في كنيسته، هو الممجدُ والمباركُ الى الأبد، آمين.