عظة البطريرك يوحنا العاشر في عيد الفصح، دمشق



2014-04-20

p1 عظة البطريرك يوحنا العاشر
في عيد الفصح، دمشق، الكاتدرائية المريمية 2014
قيامة الرب في توما

"المسيح قام والملائكة فرحت، المسيح قام والجن تلاشت، المسيح قام فلا ميت في القبر"

هذا ما ترنّمه كنيستنا المقدسة وهذا ما أخذته ذاكرتها من كلمات الذهبي الفم، التي حفرت لها مكاناً في ذاكرة كل منا. قيامتك ربي هي الفرح بعينه، هي النصر على الموت الذي تسيّد جبلتنا، هي انمحاق الشكّ في لجج اليقين وانسكاب المحبة في فضاءات القلوب، وهي عبور الزمن لنمسي أبناء الحياة وتجلّي الرجاء في دنيا الملموس، وهي في غايتها، شراكة المسيح في غلب الموت واستعلانُ محبّيه أبناءَ الحياة الخالدة.

نحن أناسٌ قياميون. نحن من عمق الصليب نستشرق القيامة، وبمسامير يسوع ندق إسفين الرجاء في جسد واقعنا. نحن مع المجوس نسجد له طفلاً تنازل إلى ضعتنا، ومع العذراء نحفظ كل شيء في قلبنا حتى بزوغ فجر القيامة. نحن مع زكا العشار ننتظره، ومع الخطأة نجالسه، ومع المجدلية نبكيه، كيما نرى ملاك النور من على قبره معلناً لنا بشائر الفرح بنهوضه. نحن مع صبية أورشليم نقبله، ومع بطرس الهامة ننكره، ومع بطرس نفسه نغسل نكراننا بدموع التوبة لنسمع منه: سلامي لكم سلامي أعطيكم. نحن مع المجدلية نقف بعتوّنا البشري، ومع المجدلية نتّضع ونتوب، ومعها أيضاً نسمعه ينادينا باسمنا من بعد قيامته. نحن مع قائد المائة نتأمله وبعيون نيقوديموس ننظره ومع الرامي نسكب عليه من مآقينا، ومع النسوة نطيبه بطهر نفوسنا كما بالطيب الزكي. نحن مع توما نصرخ: فلنمت معه، وبضعف طينة توما نهجره، وبيد توما نتلمسه صارخين: ربي وإلهي.

hb1 توما الرسول هو مثال تلك الطينة البشرية التي تتلمس في كثير من الأحيان، وبكثيرٍ من الشك، قوة ربّها وقوةَ فعله. توما هو مثال تلك الطينة البشرية التي تتقد إيماناً وتتوهج في سائر الأوقات وتخبو أو تضعف جذوتها في أوان الضيق. قبل الآلام، نجد توما الرسول في مصف أولئك الذي يحدوهم إيمانهم إلى الموت مع يسوع؛ يخبرنا الإنجيلي يوحنا قائلاً: "فقال توما الذي يقال له التوأم للتلاميذ رفقائه، لنذهب نحن أيضاً لكي نموت معه" (يو11: 16). وبعد الآلام، نرى ضعفنا البشري في طيات هذه الكلمات: "فقال لهم (توما)، إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع يدي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أؤمن" (يو20: 25). يخطئ من يظن أن توما لم تكن فيه بذرة الإيمان، ويخطئ أيضاً من يظن أن عتو الطبيعة البشرية في توما جفف فيه قوة رجائه بيسوع. قد يعترضنا في حياتنا ما حصل لتوما، قد نهنأ بعيشنا بقرارة عينٍ وقد تنقلب الأيام وقد نقول في نفوسنا في كثيرٍ من الأحيان: أين أنت يا الله مما يحصل لنا ومما يحيق بنا من أخطار؟ أين أنت من بكاء الأطفال ومن الضيق الحاصل؟ أين جبروتك يا ربّ من طغيان الخطيئة وتجبّر الظلام؟ هذا ما قد يقوله كلّ منا في وقت التجربة وفي زمن الكارثة. وهذا، ما أحسب، أنه دار في سريرة توما وغيره من تلاميذ يسوع. لم يرق لتوما أن يرى من أقام الموتى مدرجاً بين الأموات. لم يرق له وهو الناظر بأعين ترابية أن يرى من شفى جرح نازفة الدم مثخناً بالجراح مقيداً إلى العود المحيي. لم يكن توما ليتخيل يوماً أن السيد والمعلم الذي طرد الباعة من هيكل الرب والذي ظهر معتلناً في الأردن سيسلك درب الصليب والموت. ولم ينتظر يوماً ليرى من توّجته هالة المجد في الأردن متوجاً بإكليل الشوك في الجلجلة. لم يتصور توما أن من رقّ لبكاء أرملة نائين مقيماً ابنها من الموت، ستبكيه العذراء ومصف النسوة معلقاً على صليبه فريسةً للموت.

لكن أحكامي ليست كأحكامكم(إش 55: 8)؛ يقول الرب. وقوتي ليست كقوتكم. ومنْ شكِّ توما ومن ضعفه البشري غدا التلميذ أيقونةً لشعلة الرجاء التي لا تنيخها عواصف المحن.

لم يترك السيد خليقته ولن يتركها بين بحور الشك واليقين. لن يستكين يسوع في القبر ولن يستكين عندما يرانا وسط ضيقنا. يريدنا يسوع أن نكون أبناء القيامة، يريدنا أن نخرج من براثن الشك لنتلمّس بيد توما جنبه المحيي. ما أقدس هذه اليد التي لامست جنب يسوع! وما أسمى اعتراف توما "ربي وإلهي"! بهذا الاعتراف يعلمنا التوأم أن نرتوي من الرجاء وندفن في بحورِه شكّنا البشري. ولعل أحلى ما قيل عن اعتراف توما، هو ما جاء على لسان ناظم التسابيح.

لقد خُطّ لأجلي
اعتراف الإيمان هذا بلا شك
من يد توما، التي، بمسّها المسيح،
أمست بالحقيقة قلمَ كاتبٍ سريع الكتابة ،
يصف للمؤمنين المكان الذي منه بزغ الإيمان.
من هنا شرب اللص وما عطش بعد،
ومنه روّى التلاميذ قلوبهم.
منه ارتوى توما معرفةً بما رغب تقصيه.
شربَ أولاً، ومن ثم أعطى الآخرين ليشربوا.
شكّ للحظةٍ، فأقنع كثيرين أن يهتفوا:
أنت ربنا وإلهنا! .

يريدنا المخلص أن نمسح عن شرارة روحنا غبار ضعفاتنالنتلمّسه بأعين الروح، يريدنا أن ندفن شكّنا وتأفف حياتنا في جراح يديه كي ندعوه من صميم القلب إلهاً وربّاً. يريدنا، ومن قلب ضيقنا، أن نحوز أملنا فيه بأنه سيد الموت ورب القيامة. نحن، ومهما اشتدت المحن وقست الظروف، مدعوون أن نُجبل بالرجاء، وأن نتيقّن أن الرب معنا وأن الرجاء اليقين به هو حبل خلاصنا ومرساة سفينة حياتنا. أيها السيد الناهض من بين الأموات، كما عَبَرتَ بنا بقيامتك المجيدة من الظلمة إلى النور، هكذا اعبُرْ بسوريا من نيرِ المحنة إلى نور القيامة. وهَبنا الطمأنينة والاستقرار. امتلِكْقلوبنا وأسكِتْ طبولَ القلاقل الثائرة على بلادنا الحبيبة، وسمّر بقوة انبعاثك كل عنف وتطرف وتكفير وترهيب فإن بذرة السلام أقوى من أشواك الإرهاب.
ولعل ما خطته يد يوحنا الدمشقي، ابن هذه الديار المعذّبة، وما أخذَتْه عنه الكنيسة ترنيماً بهجاً في يوم القيامة، هو خير ما نضعه نصب أعيننا دوماً، في يوم الشدة:

"يا ما أشرف، يا ما أحبّ! يا ما ألذّ نغمتك أيها المسيح. لأنك قد وعدتنا وعداً صادقاً بأنك تكون معنا إلى نجاز الدهر، الذي نحن المؤمنين نعتصم بها مرسىً لرجائنا. فنبتهج متهللين" .

ونحن على وعد المسيح نعيش وهو الصادق أبد الدهر.

المسيح قام، حقاً قام.