شكرُ الرب أساس استمرارية عطاياه



2014-01-19


p1عظة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر
في كنيسة رقاد السيّدة في البلمند،

  

باسمِ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القُدُس الإله الواحد، آمين.

إنَّ الإنجيلَ الذي سمعناهُ اليومَ، يُسلِّطُ الضَّوءَ على ناحيَةِ أساسِيَّةٍ في حياةِ الإنسانِ، وعلاقتِهِ مع الرَّبِّ بِشكلٍ خاصّ.

البُرصُ العشرةُ أتَوا إلى الرَّبِّ يسوعَ، وطَلَبوا منه قائلِينَ: "يا مُعلِّمُ ارحمْنا"، وفيما هُم ذاهِبونَ طَهُرُوا، ولكِنَّ واحِداً فقط، وكان سامِريًّا، عاد مُمَجِّدًا اللهَ بِصوتٍ عَظيمٍ، وَشَكَرَ الرَّبَّ يسوعَ، وخَرَّ ساجدًا عِندَ قَدَميه.

فَقَال الرَّبُّ: "وَأَينَ هُمُ التِّسعَةُ؟ أَلَم يُوجَدْ إلاّ هَذا الأَجنبِيُّ لِيَعودَ وَيُمَجِّدَ الله"؟.

- إنَّ علاقةَ الإنسانِ بِالرَّبِّ تَأخُذُ أوْجُهًا مُتَعدِّدَةً؛ وَجهُ مِن هَذهِ الوُجوهِ هُوَ وَجْهُ الخَوف، أَي أَنَّنا نَتعَاطى مَعَ الرَّبِّ وكأَنَّهُ قَائِمٌ كَي يُحاكِمَنا، كَي يُعاقِبَنا، كَي يُقاصِصَنا، وَلِهذا نُتَمِّمُ مَا نُتَمِّمُهُ، وَمَا يَطْلُبُهُ مِنَّا، لأَنَّنا نَخَافُ العُقوبَةَ والقَصَاص.

- في الحَالَةِ الثَّانِيَةِ نَتَعاطى مَعَ اللهِ مِنْ حَيثُ نَدرِي أَو لا نَدرِي، وكَأَنَّ اللهَ هُو الَّذي يُلَبِّي حاجَاتِنا، كَأَنَّهُ بِشَكلٍ مِنَ الأَشكالِ خَادِمٌ لاحتِيَاجاتِنَا. فَعلاقَتُنا بِهِ تكُونُ أَنَّنا نُصلِّي لَهُ وَنَطلُبُ إِليهِ كَي يُعطِينَا الخَيرَاتِ، كَي يُحسِنَ إِلينَا، وَيَحُلَّ مَشاكِلَنا.

وَأَحياناً، يَتَسَرَّبُ إِلينَا الشَّكُّ عِندَمَا نَطْلُبُ أَمرًا وَلا يَتَحَقَّقُ، فَنَقُولُ: لِمَاذا أُصَلِّي؟ ومَا فَائِدَةُ صَلاتِي؟ HB1

فَهَا أنا أُصلِّي وَأُضيءُ شُمُوعًا، وَلكِن دُونَ جَدوى. هل يَسْمَعُني اللهُ يَا تُرى؟ هَلِ اللهُ مَوجُودٌ؟ ... وَهذَا مَا قَصَدْتُهُ، عِندَمَا وَصَفتُ عَلاقَتَنَا باللهِ عَلى أَنَّهُ خَادِمٌ لِحاجَاتِنَا وَمَطالِبِنَا.

مِنَ البُرْصِ العَشرَةِ، تِسْعَةٌ ذَهَبُوا وَلَم يَعُودُوا، واحِدٌ فَقَط عَادَ مُمَجِّدًا اللهَ وَشاكِرًا السَّيِّد. مَا نُسَمِّيهِ الشُّكْرَ وَبِكَلامٍ آخَرَ التَّسْبِيحَ، التَّمْجِيدَ، الحَمْدَ للهِ، هَذا وَجْهٌ مُهِمٌّ في حَيَاةِ الإنسَانِ وعَلاقَتِهِ بالرَّبّ.

ففِي الكِتابِ المُقَدَّسِ أَمثِلَةٌ لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى عَن أَهَمِّيَّةِ التَّسبِيحِ والحَمْدِ والشُّكْرَان.

فِي صَلَواتِنَا أَيْضًا، فِي المَزامِيرِ والتَّراتِيلِ الَّتِي نُرَدِّدُهَا كُلَّ يَومٍ. فَكَمْ مَرَّةً فِي صَلاتِنَا نَقُولُ: المَجْدُ لِلآبِ والابْنِ وَالرُّوحِ القُدُس...؟! إِحْمَدُوا الرَّبَّ فَإِنَّهُ صَالِحٌ، سَبِّحُوا الرَّبَّ ...

الرَّبُّ يَسوعُ دَومًا كَانَ يَشْكُرُ وَمِن ثَمَّ يُبَارِكُ.

تَذكُرُونَ مَثَلاً أُعجُوبَةَ تَكْثِيرِ الخُبزَاتِ والسَّمَك، يَقُولُ الكِتابُ: "رَفَعَ عَينَيهِ وَشَكَرَ وَبَارَك. وَأَيضًا في العَشَاءِ الأَخِيرِ، عِندَما جَالَسَ تَلامِيذَهُ، وأكَلَ مَعَهُم، وَأَسَّسَ سِرَّ الشُّكْرِ، يَقُولُ الإِنجِيلُ: "شَكَرَ وَبَارَكَ وبَعدَ ذَلِكَ كَسَرَ وَأَعطَى تَلامِيذَهُ الرُّسُلَ القِدِّيسِينَ قَائِلاً...".

القُدَّاسُ الإِلَهِيُّ الَّذي نُقِيمُهُ الآنَ معًا نُسَمِّيهِ، بِاللُّغَةِ اللاهُوتِيَّةِ، سِرَّ الشُّكْرِ، وَنَقُولَ الإِفخَارِسْتِيّا، وهِيَ كَلِمَةٌ يُونانِيَّةُ الأَصْلِ، صَارَتْ تُستَخْدَمُ فِي كُلِّ اللُّغَاتِ كَمُصطَلَحٍ لاهُوتِيٍّ، وهِيَ تَعْنِي الشُّكْر.

- سَتُلاحِظُونَ بَعْدَ قَلِيلٍ، في مَا يُسَمَّى "الكَلامَ الجَوهَرِيَّ"، أَو الأنافُورا، أَي التَّقْدِمَة، حَيثُ سَنُقَدِّمُ القَرابِينَ (الخُبْزَ وَالخَمْرَ) كَي يَحُلَّ عَليهَا الرُّوحُ القُدُسُ، فَتَتَحَوَّلَ إِلى جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ الكَريمَين، وَسنَشتَرِكُ بِهَا، وَنَقُولَ: رَحْمَةَ سَلامٍ ذَبِيحَةَ التَّسبِيحِ أَي الشُّكران، وَالحَمْد والتَّمجِيد.

يَقِفُ الكَاهِنُ في البَابِ المُلُوكِيِّ وَيتَوَجَّهُ نَحْوَ الشَّعْبِ وَيقُولُ، في مَا نُسَمِّيهِ الحِوارَ الإفْخَارِسْتِيّ أَوِ الشُّكْرِيّ: "نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسيحِ... فَيُجِيبُ الشَّعْبُ: "وَمَعَ رُوحِكَ". "لِنَضَعْ قُلُوبَنَا فَوق". "واضِعُوهَا لَدى الرَّبّ". "لِنَشْكُرَنَّ الرَّبّ". وفيما يَقُولُ الشَّعْبُ لَحَقٌّ وَوَاجِبٌ، يُتابِعُ الكَاهِنُ: "وَاجِبٌ وَحَقٌّ أَنْ نُسَبِّحَكَ وَنَشْكُرَكَ وَنُمَجِّدَكَ وَنَسْجُدَ لَكَ..."

وَهكَذا فَإِنَّنا نَلْحَظُ الشُّكْرَ فِي حَيَاةِ يَسُوعَ، فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ، وَبِشَكْلِ دَائِم. هَذَا مَا يَعَبِّرُ عَن حَالَةِ انْسِحَاقِ القَلْبِ في عَلاقَةِ الإِنسَانِ بِالرَّبّ. لِذَلِكَ،

1- فَالشَّكْلُ الأَوَّلُ لِهَذا الشُّكْرِ عَبَّرَ عَنْهُ البُرصُ التِّسْعَةُ الَّذينَ عِندَمَا شُفُوا، أَدَارُوا ظُهُورَهُم، وَمَشَوا.

2- أمَّا الشَّكْلُ الثَّاني للشُّكرِ فَيُمَثِّلُهُ الأَبْرَصُ الَّذي عَادَ أَدْرَاجَهُ عِندَمَا أدرَكَ عَطِيَّةَ اللهِ لَهُ، فَسَجَدَ لِلسَّيِّدِ مُمَجِّدًا اللهَ وَشَاكِرًا ايَّاه.

3- وَالشَّكْلُ الثَّالِثُ هُوَ عِندَمَا يَشْكُرُ الإِنسَانُ السَّيِّدَ، لَيسَ فَقَط عِندَمَا يَتَلَقّى العَطِيَّةَ وَحَسْب، وإِنَّمَا يَشْكُرُهُ فِي كُلِّ حِينٍ؛ يَشكُرُهُ فِي الرَّاحَةِ كَمَا في الضِّيق، يَشْكُرُهُ فِي الفَرَحِ كَمَا فِي الحُزْنِ وَالأَلَم، فَإِنْ عِشْنَا فَلِلْمَسِيحِ نَحْيَا، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلْمَسِيحِ نَمُوتُ، وَهَكَذَا تَتَحَوَّلُ حَيَاةُ الإنْسَانِ بِكَامِلِهَا، فِي الفَرَحِ وَالأَلَمِ وَالحُزْنِ وَالشِّدَّةِ، في الضِّيقَ وَالرَّاحَةِ، فِي كُلِّ أَوقَاتِ حَياتِهِ، إِلى حَرَكَةِ تَسْبِيحٍ وَتَمْجِيدٍ وَشُكْرَانٍ دَائِمٍ. HB2

وَهُنَا يَحْضُرُنِي مَا يَتَكَلَّمُ عليهِ آبَاؤُنَا القِدِّيسُونَ، عِنْدَمَا يُشَبِّهُونَ حَياةَ الإِنْسَانِ الرُّوحِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ عَلاقَتُهُ بِالرَّبِّ بِثَلاثِ حَالاتٍ؛ الأُولى هِيَ حَالَةُ العَبْدِ، والثَّانِيَةُ حَالَةُ الأَجِيرِ، وَالثَّالِثَةُ هِيَ حَالَةُ الابْن. فَفِي حَالَةِ العَبْدِ يُتَمِّمُ مَا يُرِيدُهُ سَيِّدُهُ وَمَا يَأمُرُهُ بِهِ، خَوفًا مِنَ السَّوطِ، وَخَوفًا مِنَ العِقَاب. وَالأَجِيرُ يُنْجِزُ مَا يُريدُهُ مِنْهُ رئيسُهُ طَمَعًا بِالمُكافَأةِ وَالأَجْر. أَمَّا الابْنُ فَيُتَمِّمُ وَصِيَّةَ سَيِّدِهِ لأَنَّهُ أَبُوهُ وَلأَنَّهُ يُحِبُّه، فَهُوَ الابْنُ وَهُوَ الوَارِثُ فِي هَذَا البَيت، لا خَوفًا من سَيِّدِهِ ولا طمَعًا بِمُكافَأةٍ، بَل لأَنَّهُ ابنٌ.

وَهَكذَا نَحْنُ جَمِيعًا مَدعُوّونَ لأَن تَنْسَحِقَ قُلوبُنَا وَتُنْخَسُ بِرَحْمَةِ الرَّبِّ، فَتنْفتِحَ لِرَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، فَيَسْكُنَ فِينَا، عِندَها نَتَحَوَّلُ وَنَتَبَدَّلُ، وَنَنتَقِلُ مِنْ مَرحَلَةٍ إِلى أُخرَى إلى أَن نَتَجَدَّدَ، كَمَا سَمِعْنَا فِي رِسَالَةِ اليَوم، عَلى صُورَةِ خَالِقِنَا، وَآنَذَاكَ نَصْرُخُ وَنَقُولُ، مَع القِدِّيسِ يُوحَنَّا الذَّهَبِيِّ الفَمِ الأَنطَاكِيِّ العَظِيمِ وَمُعَلِّمِ المَسْكُونَةِ، الَّذِي وَهُوَ عَلى فِرَاشِ المَوتِ فِي المَنْفَى، وَكُلُّنَا نَعْرِفُ كَمْ جَاهَدَ وَتعَذَّبَ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ جُمْلَتَهُ الشَّهيرَةَ: "المَجْدُ للهِ عَلى كُلِّ شَيءٍ" فَلْيُعْطِنَا الرَّبُّ الإِلهُ جَميعًا أَنْ نَصْرُخَ مَعَ القِدّيسِ يُوحَنّا، مِنْ قَلبٍ مَجْرُوحٍ بِمَحَبَّةِ اللهِ وَالشُّكْرِ لَهُ: "المَجْدُ للهِ عَلى كُلَّ شَيءٍ"، آمين.