الصليب - آقوال أبائيّة



 "فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة اللَّه"

يُعلن التعلّيم بالصليب عن خلاص العالم الذي أدخلت الخطيئة فيه الفساد. فالذين يهتّمون بالفلّسفات البشريّة دون خلاصهم يجدونه غباوة، " يرون في المسيح أنه من الناصرة حيث لا يخرج شيء صالح" .

كان يسوع فقيرًا بلا بيت يستقرّ فيه، وأن أصدقاءه قليلون، ليس له مركز اجتماعي أو ديني عظيم.
لم يقدّم أفكارًا فلسفية للحوار العقلي، مرفوض من خاصته، وفي ضعفٍ رُفع على خشبة الصليب. سقط تحت العقوبة التي تحلّ بالعبيد، وكان عاجزًا عن أن يخلّص نفسه من عار الصليب.
هذا كلّه لأنهم لم يصدّقوا قيامته. وأمّا الذين يهتمّون بخلاصهم فيجدونه قوّة اللَّه.

لا تُعرف قوّة الصليب بواسطة الهالكين، لأنهم بلا تعقل يعملون كمجانين، يشتكون من الأدوية التي تجلب الخلاص ويرفضونها.

لاحظ الآن عندما أقول "صُلب" يقول اليوناني "وهل يُعقل ذلك؟"
ذاك الذي لم يجد عونًا أثناء الصليب وعانى من حكمٍ مرٍّ في لحظات الصلب، كيف يقوم بعد ذلك ويُعين الآخرين...؟
حقًا يا إنسان إن هذا الأمر بالحقيقة يفوق العقل. قوّة الصليب لا يُنطق بها. فإنه إذ كان بالفعل وسط الأهوال يُظهر نفسه فوق كل الأهوال. وبكونه في قبضة العدو يغلب العدو، هذا يتحقق بالقوة غير المحدودة.

لم ينزل من الصليب، ليس عجزًا منه، ولكن لأنّه لم يرد ذلك...
ذاك الذي يحجم طغيان الموت كيف يمكن لمسامير الصليب أن تحدّه؟
هذه الأمور المعروفة لنا لم يعرفها بعد غير المؤمنين.

هكذا يبدو الصليب موضوع مقاومة، ومع ذلك فهو أعظم من أن يُقاوم، إذ يجتذب (المقاومين).

يتحدّثون عن الصليب كجهالةٍ وضعفٍ. حقيقة الأمر ليس هكذا، بل هذا هو رأي الآخرين. فإنه إذ يعجز الفلاسفة عن أن يدركوه بالطرق العقلانية إذ يبدو لهم ما هو سامٍ للغاية، جهالة.

أيّ شيء لم يقدّمه الصليب؟ تعليم خلود النفس، وما يخص قيامة الجسد، والازدراء بالزمنيات، والاشتياق إلى الأخرويات. حقًّا إنه يجعل من البشر ملائكة، ويمارس الكل في كلّ موضعٍ بذل الذات، ويظهرون لك أنواع الاحتمال.

أما تعرف كيف أصلح الصليب أخطاء كثيرة؟ ألم يحطم الموت، ويمسحُ الخطية، وينهى قوة الشيطان، وُيشبع كيان جسدنا الصالح؟ ألم يصلح العالم كلّه، ومع هذا لا تثق أنت فيه؟.

من يخبّر عن أعمال الرّب القديرة؟ (مز2:105)
من الموت صرنا خالدين، هل فهمتم  النصرة والطريق التي بلغتها؟ تعلّموا كيف اُقتنيت هذه الغلبة بدون تعبٍ وعرق. لم تتلطّخ أسلحتنا بالدماء ولا وقفنا في خط المعركة، ولا جُرحنا، ولا رأينا المعركة لكننا اقتنينا المعركة. الجهاد هو مسيحنا، وإكليل النصرة هو لنا.

ما دامت النصرة هي لنا، إذن يليق بنا كجنود أن نرتّل اليوم بأصواتٍ مفرحة بتسابيح الغلبة.
لنسبّح سيّدنا  قائلين: "قد أُبتلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت، أين شوكتك يا هاوية؟" (1كو54:15-55).
(القدّيس يوحنا الذهبي الفم).

cff - بفعله هذا (الصلب) يظهر اللَّه أن الأعمال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات. (القدّيس أمبروسيوس).

- "لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء،وأرفض فهم الفهماء"

 هذه العبارة مقتبسة من إشعياء النبيّ 14:29 ، وقد جاءت في الترجمة السبعينيّة: "سأبيد حكمة الحكماء، وأخفي فهم الفهماء". يبيد اللَّه حكمة الحكماء، بمعنى أن خطّته الخلاصية لا تقوم عليها، وأما الذين يظنّون أنّهم فهماء فإن فهمهم لا قيمة له. يحمل الإيمان المسيحي "الحق" الذي يفوق الفكر البشري.

يتحدّث بولس عن حكمة هذا العالم وليس على البلاغة ذاتها، فإن اللَّه أيضًا يعطيها. اللَّه هو الذي قسّم اللغات وأعطى لكلّ لغّةٍ سمتها الخاصة.
هو الذي وهب اللغة اليونانية سموّها. أما الذين يفسدون هذه العطايا فيعدون طعامًا للخداع ويكرزون بقصصٍ باطلة.

ما يعترض عليه بولس ليس بلاغتهم هذه بل تعليمهم الباطل الذي وراء هذه البلاغة.  (ثيؤدورت أسقف قورش)

-          إن كانت هذه الحكمة (البشرية) في حرب ضد الصليب وصراع ضد الإنجيل، فإنّه لا يليق الافتخار بها بل الانسحاب منها في خجلٍ. لهذا السبب لم يكن الرسل حكماء، ليس خلال أي ضعف في العطية، وإنما لئلا تتعطل الكرازة بالإنجيل. (القدّيس يوحنا ذهبي الفم).

"أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهل الله حكمة هذا العالم؟"

 أينهم؟ إنّهم لا يوجدون إذ جعلهم اللَّه كلا شيء. يُقصد بالحكيم الفيلسوف اليوناني، وبالكاتب الرجل اليهودي المتعلّم، أما مباحث هذا الدهر فيشمل المحبّين للحوار النظري العقيم سواء كانوا يهودًا أو أمميين.

يرى البعض أن الحكيم والكاتب ومباحث هذا الدهر يشيرون إلى اليهود كما ورد في (إش 14:29؛ 18:33؛ 25:44). فالحكيم عند الرسول هو (chataam عند إشعياء النبي، ويعني به) من يمارس التعليم.
والكاتب  (يقابل copeer عند إشعياء النبي)  وهو الشخص المتعلّم والمتميّز عن عامة الشعب، خاصة في معرفة التقاليد اليهودية.

والمباحث  هو (  deroshأو  dorshan)  الذي  يجيب على الأسئلة ويعطي فهمًا رمزيًّا للكتاب المقدّس.
هؤلاء الثلاثة كانوا معروفين لليهود.

"           ألم يجهّل الله حكمة هذا العالم؟" يجعل اللَّه حكمة هذا العالم جهالة، إذ ينقصها الإيمان بالمسيح المصلوب، وبالتالي تعجز عن تقديم الخلاص للناس.

جاء في التقليد اليهودي أنّه لا يكون أحد حكيمًا أو قويًا أو غنيًا بدون اللَّه. فيرون أنّه يوجد حكيمان في العالم هما أخيتوفل الإسرائيلي (2 صم 15-17) وبلعام الأممي (عدد 22-24)، وكلاهما كانا بائسين في العالم. ويوجد رجلان قويّان هما شمشون اليهودي في لحظات سقوطه (قض 13-16) وجليات الأممي (1 صم 17)، وكلاهما كانا بائسين في العالم. ويوجد غنيّان في العالم هما قورح الإسرائيلي (عدد 16) وهامان الأممي (إس 5-7)، وكلاهما كانا بائسين. لماذا؟ لأن هؤلاء جميعًا حسبوا مواهبهم ليست من عند اللَّه.

حيث تُعلَن حكمة اللَّه تذبل كلّ حكمة بشريّة مجردة، وتُحسب أمامها كلا شيء. فإنه إن اجتمعت كلّ الكواكب معًا لا تقدر أن تجعل من الليل نهارًا، لكن الشمس وحدها تفعل ذلك. وهكذا لا تقدر أن تقيم كلّ مواهب الإنسان منه قدّيسًا مهما بلغت، إنما هو عمل المسيح المصلوب، شمس البرّ.

نسمع ابن اللَّه يقول: "اعترف لك أيها الآب، رّب السماء والأرض". بماذا يعترف له؟ بماذا يمتدحه؟ "لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال الصغار" (مت 25:11). من هم الحكماء والفهماء؟ ومن هم الأطفال الصغار؟ يعني بالحكماء والفهماء الذين يقول عنهم بولس: "أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهّل اللَّه حكمة هذا العالم؟" ربما لا تزال تسأل من هم هؤلاء؟ هؤلاء هم المتجاسرون في حوارهم بخصوص اللَّه وينطقون بالباطل عنه، وينتفخون بتعاليمهم الذاتية.

إنه يحقق ما تنبّأ عنه بحق الأنبياء: "أبيد حكمة الحكماء وأنزع فهم الفهماء". فإنه لا يبيد عطيته فيهم ولا ينزعها عنهم بل ما ينسبونه لأنّفسهم وما لم ينالوه منه... هذا محتقر كأمرٍ ضعيفٍ وغبيٍ موجود في الحكماء والأقوياء من أنفسهم. ولكن هذه هي النعمة التي تشفي الضعفاء الذين لا ينتفخون في كبرياء بطوباوية من عندياتهم بل بالأحرى في تواضعٍ يعرفون بؤسهم الحقيقي. (المغبوط أغسطينوس)

    حكمة العالم غير حكمة اللَّه. حكمة اللَّه هي حق بدون إضافات تفسدها، وأمّا حكمة العالم فغبيّة، وإن كانت بساطة حكمة اللَّه تجعل الذين يقتنونها يظهرون كجهلاء في أعين العالم.

    لا تقتات بطعام الفلسفة المخادع، فإنه قد يبعدك عن الحق.

    أستطيع القول بكلّ ثقة أنه ليس محبّة البلاغة الدنيوية، ولا سفسطة الفلاسفة، ولا أخطاء المنجّمين الخاصة بدورات الكواكب، ولا تأليه الشياطين الكذبة، ولا أيّ علم آخر خاص بالمستقبل مستخدمًا خداعات شريرة، يقدر أن يفصلنا عن محبّة اللَّه التي في المسيح يسوع ربنا. (أوريجينس)

" لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة، استحسن الله أن يُخلص المؤمنين بجهالة الكرازة "

            بقوله " كان العالم في حكمة اللَّه " لا تُفهم الحكمة التي مصدرها اللَّه، وإنما الحكمة التي غايتها البحث في اللَّه. فقد ظن كثير من الفلاسفة أنهم قادرون على التعرف على طبيعة اللَّه وأسراره وخطّته بحكمتهم البشرية المجرّدة.

يرى الرسول أن فلاسفة العالم في بحثهم في أعمال اللَّه وخليقته لم يعرفوا اللَّه، فسقطوا في أعماق ظلمة الجهالة (رو 20:1-21). أو أنّه إذ ترك اللَّه الإنسان ليحكم بنفسه بحكمته لم يبلغ إلى المعرفة الصادقة، لهذا تدخّل اللَّه بإنجيل الصليب الذي يراه العالم جهالة ليكشف لهم عن الحق الإلهي، ويقدّم لهم الخلاص.
لقد ترك للبشر وقتًا كافيًا، أكثر من  4000 عامًا، ومع هذا فشل الإنسان في إدراك المعرفة.

بالفلسفة البشريّة المجرّدة أنكر الإنسان وجود اللَّه تمامًا أو أنكر عنايته ورعايته للبشريّة. ولم يستطع خلال فهمه ولا خلال تأمّله في الطبيعة أن يتلمّس يد اللَّه ويتعرّف على خطته.
فإنّه ليست من حكمة تقدر أن تنير أعماق الذهن وتكشف له عن الأسرار الإلهية وتجدّده وتهب للإنسان خلاصًا، وتدخل به إلى الأمجاد السماوية سوى الصادرة من اللَّه.

كما أن المعلّم يأمر تلميذه أن يتبعه حيثما يقوده، وإذ يراه ممتنعًا عن ذلك ويريد أن يتعلّم كلّ شيء بذاته، يسمح بأن يتركه يضل. وإذ يدرك التلميذ أنّه عاجز عن بلوغ المعرفة يقدّم له المعلّم ما يتعلّمه، هكذا فإن اللَّه أيضًا يأمر من البداية أن يقتفي البشر أثره بالفكرة التي تقدّمها الخليقة، وإذ لم يريدوا فإنّه بعد أن أظهروا بالخبرة أنّهم عاجزون بأنفسهم يقودهم إليه مرّةَ أخرى بطريق آخر. (القدّيس يوحنا الذهبي الفم)

            الإيمان بالمسيح المصلوب يهبنا سلطانًا، وإذ ينقصنا شيء في إيماننا تقدّمه لنا قوة اللَّه.  (أوريجينوس)

" لأن اليهود يسألون آية، واليونانيين يطلبون حكمة "

            يرى بعض الدارسين أنه لم يكن يوجد شعب بطيء في قبول الإيمان باللَّه مثل اليهود، وإذ كانوا دائمًا يخشون الخداع. كانوا يطلبون من الأنبياء أن يصنعوا أمامهم آيات وعجائب. هذه هي سمات الشعب اليهودي أنّهم لم يكونوا قادرين على التعرّف على اللَّه إلاّ بصنع آيات وعجائب ملموسة. وكانوا يفتخرون بذلك، ويطلبونها من كلّ نبيّ يظهر لكيّ يتأكّدوا من صدق إرساليته من قِبَلْ اللَّه.

لهذا احتقروا الكرازة البسيطة بالمسيح المصلوب. كانوا ينتظرون المسيّا الذي يصنع آيات من السماء (مت38:12)، فيخلّصهم من الأعداء بالقوة.

يقصد باليونانيين هنا الأمم بصفة عامة، خاصة الفلاسفة، فإنّهم يطلبون ديانة تعتمد على الحكمة البشرية، ولهذا استخفوا بالإنجيل.

في الرسالة إلى كنيسة كورنثوس نجد ذاك الذي نتحدث عنه بسموٍ، معلّم كلّ الكنائس، أقصد بولس يقول: "اليهود يطلبون آية، واليونانيون حكمة. لكنّنا نكرز بالمسيح مصلوبًا، لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة. وأمّا لنا نحن المخلّصين، سواء كنّا من اليهود أو اليونانيين، فالمسيح قوّة اللَّه وحكمة اللَّه".

يا له من معلّم قويّ للإيمان!

فإنّه حتى في هذه العبارة إذ يعلّم الكنيسة يحسب أنه لا يكفي الحديث عن المسيح بأنّه اللَّه، بلّ يضيف أنّه صُلب عن عمدٍ، من أجل التعليم عن الإيمان الواضح والصلد. هذا الذي يعلن عنه، والذي دعاه المصلوب هو حكمة اللَّه.

لم يستخدم إذن المهارة ولا احمر وجهه خجلًا عندما أشار إلى صليب المسيح. ومع كونه عثرة لليهود وجهالة للأمم أن يسمعوا بأن اللَّه قد وُلد (بالجسد) في شكل جسدي، وأنّه تألمّ وصلب إلّا أّنه لم تضعف قوّة ملامحه التقيّة بسبب شر اليهود المقاومين، ولا قلّل من قوّة إيمانه بسبب غباوة الآخرين وعدم إيمانهم.

إنّه بكلّ صراحة أصرّ بجسّارة أن يُعلن أن ذاك الذي هو عثرة وجهالة للبعض هو قوّة اللَّه وحكمته. كمّا أّن الأشخاص مختلفون فيما بينهم، لذلك هم مختلفون في أفكارهم. فمّا ينقص إنسان من فهم صادق وعجز عن الصلاح الحقيقي، وفي جهالة يُنكر هذا في عدم إيمان، إذًا بالمؤمن الحكيم يشعر في أعماق نفسه أنّه عطيّة مقدّسة واهبة حياة. (القديس يوحنا كاسيان)

 

"ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا، لليهود عثرة ولليونانيين جهالة"

 ما كان يشغل قلب الرسل ليس صنع الآيات والعجائب، ولا تقديم فلسفات عقلية مجرّدة، بل الكرازة بصليب السيّد المسيح ليتمتّع اليهود كما الأمم بقوّة الخلاص.

تعثر اليهود لأنهم لم يجدوا في المسيح الملك الأرضي الذي يصنع آيات وعجائب من السماء ليُقيم منهم مملكة عظيمة ويخلّصهم من الاستعمار الروماني (مت35:12). جاءهم السيّد المسيح وديعًا ومتواضعًا، لا يطلب المجد الزمني فتعثّروا فيه.

وحسب اليونانيون الصليب غباوة لأنه يقدّم شخصًا مصلوبًا، لا معلّمًا يحاور في فلسفات وأفكار متغيّرة.

أورد  الشهيد يوستينس (القرن الثاني ميلادي) بعض كلمات السّخرية التي تكلمّ بها تريفون ضد المسيحيين: يسوعكم سقط تحت لعنة اللَّه العظمى. في دهشة لسنا ندرك كيف تتوقّعون أمرًا صالحًا من اللَّه وأنتم تضعون رجاءكم في إنسان مصلوب!

يقول أيضًا  الشهيد يوستينس: يحسبوننا مجانين أنّنا نضع إنسانًا مصلوبًا بعد اللَّه السرمدي أب الجميع! يقول الأمميون: أين فهمكم يا من تعبدون إلهًا هو نفسه مصلوب؟

هكذا صار الصليب لليهود عثرة وللأمم جهالة. المسيّا المصلوب هو الحجر الذي تعثّر فيه اليهود (مت44:21). عِوض التمتّع بنعمة الخلاص بالصليب سقطوا في إنكار المسيح وإنكارهم لعمل اللَّه الخلاصي فزادت خطيئتهم.

المسيح الذي نكرز به في كلّ العالم ليس مسيحًا يتزيّن بإكليل أرضي، وليس مسيحًا غنيَّا بكنوز العالم، يشتهر بممتلكات أرضية، وإنّما هو مسيح مصلوب.
هذا كان محتقرًا من كلّ أمم الشعوب المتعجرفة، ولا يزال مرذولًا من البقيّة بين الأمم، لكنّه هو موضوع إيمان القلّة وليس كلّ الأمم. لأنّه عندما كُرز بالمسيح المصلوب في ذلك الحين آمن به عدد ليس بقليلٍ، إذ جعل العرج يمشون والخرس يتكلّمون والصم يسمعون والعمي يرون، والموتى يقومون.
هكذا حطّم كبرياء العالم، فإنّه حتى بين أمور هذا العالم ليس شيء أكثر قوة من تواضع اللَّه. (المغبوط أغسطينوس)

" وأما للمدعوين يهودًا ويونانيين، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله"

الذين قبلوا الدعوة الإلهيّة سواء كانوا يهودًا أم من الأمم صارت لهم نظرة واحدة نحو المسيح المصلوب.
إنّهم يرونه قوّة اللَّه، إذ يجدون قوّة الخلاص العامل في حياتهم، ويدركون حكمة اللَّه، أيّ خطّته الإلهيّة للغفران والتقّديس وتمّجيد الإنسان أبديًّا في الرّب.

يرون في الصليب سرّ تمتّع أعماقهم بالجمال الحقيقي، والسّمو في الفكر وضمان الخلاص.

يرونه مشرقًا على كلّ المسكونة ليضم الكلّ معًا فيه. الكل، سواء من أصل يهودي أو أممي، مدعوون ليصيروا بالحق عروس المسيح العفيفة الواحدة، تحمل قوّة اللَّه وحكمته.

إن كان اليهود يطلبون آية، فإن المسيح ذاته هو أعظم الآيات، صليبه الذي يبدو لليهود عثرةَ هو قوّة اللَّه للخلاص لمن يؤمن به.
يتلامسون بالآية بتجديد أعماقهم. وإن كان اليونانيون يطلبون حكمةَ، فالمسيح هو حكمة اللَّه (كو3:2).

    من يؤمن حقًا يتّحد تمامًا بذاك الذي فيه الحق واللاهوت والجوهر والحياة والحكمة، ويرى فيه كلّ هذه والتي ليست في من لا يؤمن.
فإنّه بدون ابن اللَّه لا يكون لك وجود ولا اسم، ويصير القويّ بلا قوّة، والحكيم بلا حكمة، لأن المسيح هو "قوّة اللَّه وحكمة اللَّه" (1كو24:1)، فإن من يظن أنه يرى اللَّه الواحد بلا قوّة ولا حق ولا حكمة ولا حياة ولا نور حقيقي، إمّا أنّه لا يرى شيئًا بالمرّة أو بالتأكيد يرى ما هو شر.

عندما خلق اللَّه كلّ الأشياء،  لم يكن محتاجًا إلى أيّة مادة لكيّ يعمل، ولا إلى أدوات في إقامة الخليقة، لأن قوّة اللَّه وحكمته لا تحتاج إلى عونٍ خارجي. بل المسيح قوّة اللَّه وحكمة اللَّه به كلّ الأشياء خُلقت، وبغيره لم يكن شيء ممّا كان كما يشهد يوحنا (يو 3:1).

الآن إذ تمّم الابن مشيئة الآب وهي مشيئة ثالوثيّة، أيّ مشيئة الآب والابن والروح القدس معًا،  وهذا في لغّة الرسول هو " أن يخلّص كلّ بشر" (1تي 4:2)"، يلزمهم لأجل نفعهم أن يكرّموا الآب والابن مثله، إذ لم يكن ممكنًا أن يتحقق خلاصنا ولم يكن لإرادة اللَّه الصالحة أن تصير عملًا واقعيًّا من أجلنا إلاّ خلال قوّته؛ وتعلّمنا الكتب المقدسة أن الابن هو قوّة الآب.

إذ يعلن أن طبيعته تسمو وتفوق كلّ عقل يستخدم أسماء مجيدة، فيدعوه "إلهًا فوق الكل" (رو15:9)، "الإله العظيم" (تي13:2)، "قوّة اللَّه وحكمة اللَّه"، وما أشبه بذلك. (القدّيس غريغوريوس النيصصي)

إن كنّا جسد المسيح، وقد رتّب اللَّه الأعضاء، فكلّ عضو في الجسد يهتم بالآخر، ويتناغم مع الآخر، وعندما يتألمّ عضو تتألمّ كلّ الأعضاء معه، ومتى تمجّد عضو تفرح الأعضاء معه.
يلزمنا أن نمارس الحنو النابع من الموسيقى الإلهية أي من هذا التناغم الإلهيّ، إنّه متى اجتمعنا معًا في اسم المسيح يكون في وسطنا  كلمة اللَّه، وحكمته وقوّته. (أوريجينوس)