قرأة في التجلّي



الإنجيل:
" وبعد ستة ايام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم الى جبل عال منفردين. 2 وتغيّرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور. 3 واذا موسى وايليا قد ظهرا لهم يتكلّمان معه. 4 فجعل بطرس يقول ليسوع يا رّب جيد أن نكون ههنا. فأن شئت نصنع هنا ثلاث مظال. لك واحدة ولموسى واحدة ولايليا واحدة. 5 وفيما هو يتكلّم اذا سحابة نيرة ظللتهم وصوت من السحابة قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا. 6 ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدًا. 7 فجاء يسوع ولمسهم وقال قوموا ولا تخافوا. 8 فرفعوا أعينهم ولم يروا أحدًا الاّ يسوع وحده." (متى17)

سنتّوقف هنا عند الآية التالية: " وتغيّرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور" ولنطرح بالتالي السؤال الجوهريّ: ما الذي حصل فعليًا مع يسوع؟ وما هذا النور الذي ظهر هنا؟

ts عبارة " تغيّرت هيئته" لا تعني بتاتًا أنّه قد حصل أي تغيير للمسيح يسوع بل تعني أنّه تجلّى، أي أنّه كشف عن طبيعته الإلهيّة. فهو منذ البدء إلهًا، وقد تجسّد إنسانًا كاملاً دون أن يفقد شيئًا من ألوهيته.

هذا هي الخصوصيّة الجوهريّة والأساسيّة التي تتمتّع بها المسيحية دون سواها.

لذا يخطىء بالكليّة كلّ من يعتبر أن هذا النور كان نورًا عاديًا أو رمزيًا  أو انّه أتاه من الخارج أو ما شابه كما فسّر بعض الذين لم يعرفوا حقيقة يسوع الإلهيّة الكاملة. 

فما حصل بالحقيقة أن الرّب يسوع، بلتجلّيه هذا، كشف عن طبيعته الإلهيّة لبرهةٍ كونه الله الذي صار إنسانًا، وبالتالي لم يكن النور إلّا تأكّيدًا لطبيعته الإلهيّة الكاملة. كان نورًا إلهيًٍا غير مخلوق صادرُا منه مباشرةً لأنّ يسوع هو نور من نور ومصدر النور وخالقه.

وأيضًا التجلّي مربوط بالحياة الآبديّة وبملكوت الله، وهذا ما تعنيه الآية الإنجيليّة التي تسبق حادثة التجلّي مباشرةً: " إن بعضاً من الموجودين هنا لن يذوقوا الموت حتى يروا ابن البشر آتياً في ملكوته” (متى 16: 28، ولوقا 9: 27).

أقوال بعض الأباء القدّيسين في هذا النور غير المخلوق:

- القدّيس غريغوريوس بالاماس: " هذا النور يسمو على سائر الكائنات. فكيف يكون ضياء الله مخلوقاً؟ "

وسقوط التلاميذ أرضًا لم يكن إلّا إشارة لبهاء هذا المجد الذي اظهره الرّب يسوع، هذا المجد وهذا البهاء سوف يراهما الجميع في المجيء الثاني ولكن لا احد يرى جوهر الله.

ونحن نؤمن بأن القدّيسين يرون  ملكوت الله ومجده وبهاءه ونوره الذي لا يدنى منه ونعمته، ولكن لا جوهره.

وجه يسوع يشع أكثر من الشمس وأصبحت ثيابه بيضاء كالثلج ومتميّز عن ما ظهرا عليه موسى وإيليا.

إنّه يتجلّى إذن، فلا يأخذ ما لم يكن عليه، بل يظهر ما هو عليه لتلاميذه، فاتحاً أعينهم، وجاعلاً إياهم مبصرين بعد أن كانوا عمياناً.

- القدّيس يوحنا الدمشقي: " اليوم تُرى أمور غير منظورة للعيون البشرية، جسد أرضي عاكساً تألّقاً إلهياً، جسد مائت يدفق مجد الألوهة.
تجلّى أمامهم الذي هو على الدوام ممجّد وساطع ببريق الألوهة، لأنّه، إذ هو مولود من الآب من دون بداية، فهو يملك شعاع الألوهة الطبيعي الذي لا بدء له، وهو لم يكتسب في وقت لاحق الكيان ولا المجد.

فالمجد لم يأتِ على الجسد من خارج بل من الداخل، من ألوهيّة كلمة الله الفائقة الألوهية والمتّحدة بالجسد بحسب الأقنوم على نحو يتعذر وصفه".

- القدّيس يوحنا الذهبي الفم:

لمَ تشبهونه بالشمس وهو صانعها و”المتسربل بالنور كالثوب"، و”كوكب الصبح”، وهو “النور المولود من النور”؟ هل يمكن تشبيه الله الفائق المجد؟ الذي لا يُقارن؟ 
t  
هل أراد أن يريهم "المجد الذي كان له “من قبل إنشاء العالم"؟. وابتغى أن يريهم الإله، ابن الله، المتخفّي وراء الجسد البشري والمتجسد لأجل خلاص البشر؟
لقد أراهم مجده. ولكن، لماذا كتم الإله الذي قبل كلّ الدهور، ملك الملوك ورّب الأرباب، عظمتَه ومجده كلّ الفترة التي أمضاها مع تلاميذه ولم يظهرهما إلاّ بهذه الطريقة؟
هل وجد أنهم كانوا، حتى تلك الساعة، عاجزين عن فهم ألوهته؟
لقد شقّ الرّب جزئياً باب الألوهة وأراهم الإله الذي يسكن فيه وتجلّى أمامهم.

ويكمل: لماذا قال الإنجيلي: "أكثر من الشمس"؟ لأنّه ليس من كوكب أكثر ضياءً منها. ولماذا قال: "أكثر بياضاً من الثلج"؟ لأنّه ليس من مادة أكثر بياضاً، ولكنّه لم يشعّ هكذا، إذ "وقع التلاميذ أرضاً".
فلو كان يشع كالشمس لما وقع التلاميذ أرضاً، إذ كانوا يرون الشمس كلّ يوم ولا يقعون أرضاً، بل لأنه شعّ أكثر من الشمس وأكثر من الثلج.

لقد أشفق يسوع على تلاميذه، نزل إلى ضعفهم، أراهم من ألوهته فقط بقدر ما يستطيعون احتماله وهذا ما تقوله الطروبارية في عيد التجلّي.

فماذا كان حدث لو أنه أراهم مجده الحقيقي؟ أما كانت الدنيا فنيت، لأنه “ينظر إلى الأرض فيجعلها ترتعد ويمسّ الجبال فتدخّن”؟ لو أنه أبدى جوهره، أما كانت الشمس انطفأت والقمر اضمحلّ والأرض فنيت؟ لهذا غلف نفسه بجسد وأتى بعذوبة ودون صخب.
إن النور كان على وجه موسى عابراً (2 كور 3: 7).

الآب والكلمة والروح القدس يملكون هذا النور بالطبيعة أمّا الآخرون فيشتركون في النور بالنعمة. وهذا ما نراه في موسى وإيليا. ليست أول مرّة يشترك موسى بالنور على جبل ثابور، بل في الماضي أيضاً حين رآه بنو إسرائيل مضيء الوجه ولم يتمكنوا من التحديق فيه (خر 34: 29)  “موسى تلقى على وجه مائت مجدَ الله غيرَ المائت ".

- القدّيس افرام السرياني: " أراهم كيف ينبغي أن يأتي في ذلك اليوم الأخير بمجد لاهوته وبجسد ناسوته، وكيف سيتمجّدون هم أيضاً "

- القدّيس اندراوس الكريتي: “إذ عجز التلاميذ عن احتمال شعاع هذه البشرة التي لا عيب فيها، الذي انبجس كما من نبع، من ألوهة الكلمة، بطريقة فائقة الطبيعة من خلال البشرة التي اتحّد بها بحسب الأقنوم، سقطوا على وجوههم، يا للمعجزة!"

خلاصة:
بالتجلي شعّ يسوع بمشروع خلاصه للبشر وبمحبّته اللامتناهية لكل واحد منّا، و”دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 2: 9).

هو الشمس التي لا تغيب.

“النور يظهر للصديقين والفرح لمستقيمي القلوب” (مز 66: 11)

فالنرّنم مع النبي داود قائلين: “ثابور وحرمون باسمك يتهلّلان” (138: 13) إنّه النور الآتي لينير العالم ليحوّل الذين ينيرهم إلى شموس، حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت ابيهم، من له اذنان للسمع فليسمع. (متى 13: 43).