نحن مدعوون في كلّيات لاهوتِنا أن نجمع ما بين تقوى…



2014-01-29

كلمة غبطة البطريرك يوحنا العاشر
في اللافرا- الأكاديمية، موسكو

صاحب القداسة،
أيها الحفل الكريم،

"اعلموا أن ما يُدهشنا ويذهلنا بالأكثر ليس هو عظمة روسيا (على أهميتها) بل محافظتها على حسن العبادة والتقوى الحقيقية. ونظراً لفضيلتها المسيحية هذه، لا شك أن الرب الإله سيحفظ روسيا المقدسة ويصونها كحصن منيع للأرثوذكسية المحفوظة والمصانة عندها بكل نقاوةٍ وقداسة وبهاءٍ كنائسيٍّ. أدام الله رحمته على روسيا".

l1 هذا ما قاله البطريرك الأنطاكي غريغوريوس الرابع حداد في كنيسة سيدة قازان في بطرسبرغ في 6 آذار 1913. مرت مائة عام على هذا الكلام وأثبت التاريخ وأثبتت هذه الوجوه الطيبة التي نلتقيها اليوم صحة كلام غريغوريوس وستثبت الأيام والسنون القادمة صحّته لأن جذوة الإيمان التي رآها سلفنا الطيب الذكر تلتمع في محياكم يا إخوتي.

يطيب لي أن أكون هنا بينكم في لافرا القديس سرجيوس الذي تحتفل روسيا ويحتفل معها العالم المسيحي كله بذكرى 700 سنة على ولادته في تموز 2014. والحري بنا، ونحن في هذا المكان أن نتأمل كيف أن حياتنا المسيحية الأرثوذكسية اللاهوتية والأكاديمية تستمد أصولها وترتوي إلى الآن بذكرى القداسة وتتقوى وتنهل من الرهبنة فتبني صروح العلم الأكاديمي على مداميك الحياة الصلاتية المعاشة والملموسة، لا على الفكر الكُتُبيّ المحض.

نحن مدعوون في كليات لاهوتِنا أن نجمع بين اثنين. نحن مدعوون أن نجمع ما بين تقى الأولين وبساطة إيمانهم وأبحاث المفكرين.

نحن مدعوون أن ننظر المستقبل بخبرة الماضي وندرس الماضي بعيون المستقبل. لقد كان للتقى دورٌ واضحٌ في صون الإيمان وإيصاله لنا سواء في أنطاكية أو في روسيا، كما أن للعلم اللاهوتي دوراً هاماً في دعم هذا الإيمان وترسيخه.

تقوى الأولين، كما يسميها البعض، أو غيرتهم هي التي أوصلت أرثوذكسيتنا من جيلٍ إلى جيل.

وإليكم هذا المثل الحقيقي الذي خبرتُه شخصياً. جاءنا مرةً في أحد القرى من يوزع تقويماً (روزنامةً) لأحد الجماعات المسيحية بهدف اقتناص أولادنا المؤمنين البسيطي الإيمان. استلم الولد التقويم وأراه لجده الذي تصفّحه وسر به أيما سرور. ومن تقواه وشدة غيرته ومحبته للكنيسة وقديسيها، سأله: "خذ التقويم يا ولدي وانظر وقل لي في أي يومٍ من الأسبوع سيكون عيد المعمدان هذه السنة". فعل الولد كما قال الجد لكنه لم يعثر للقدّيس على أثر في التقويم. فقال له: "يبدو أن القدّيس قد غادر يا جدي، ليس له من أثر في هذه الروزنامة". ذهل الجد وقال للموزع: "خذ هذه الروزنامة وصححها ولاتًنسَوا وضع أعياد القدّيسين ولا تعد إلى ههنا إلا والمعمدان داخلها".

 " هذه البساطة الإيمانية والتقوى المشار إليها في هذه القصة الواقعية قد رضعت الإيمان ومحبة القديسين مع حليب الأمهات."

ما أجمل أن نحافظ على هذه التقوى وسط هذه الأيام وما أحلى أن تتزين معاهد لاهوتنا وكلياته ببساطة وغيرة الإيمان معاشةً جنباً إلى جنب مع محبة العلم اللاهوتي وضرورة التبحّر في نصوص الآباء والكتاب المقدس.

اكتساب بساطة الإيمان يتماشى مع دور العلم اللاهوتي الأكاديمي.

وحريٌ باللاهوتي أن يعيش اللاهوت مُغترفاً في الوقت ذاته من خبرة الحياة الصلاتية المقترنة بالدراسة والتعمق في الكتب. اللاهوتي الحق هو الذي يتوسل كل الأشياء الصلاتية والأكاديمية ليصل إلى قرب صليب الرب ويسمع من المخلّص بنوّته للكنيسة بشخص يوحنا اللاهوتي وأمومتها لها بشخص العذراء.

ولنا في التاريخ ما يدلّنا على سيرورةٍ كهذه. فمدرسة أنطاكية اللاهوتية هي مدرسة التجسّد الملموس والمعاش. هي تنطلق كما تعرفون من المحسوس إلى اللامحسوس. عاشت كنيستنا الأنطاكية لاهوتها بشكل ملموسٍ وعملاني.

l2 ومؤمنوها اليوم يعيشون هذا اللاهوت والإيمان لا على صفحات الكتب بل على صفحات القلوب.

أبدعت أنطاكية فكراً لاهوتياً نظرياً، فقد أعطت، على سبيل المثال، ثيوفيلوس أولَ من استخدم لفظة ثالوث بالمعنى المسيحي وأعطت الذهبي الفم الذي رأى في القريب مذبحاً إلهياً، وأعطت يوحنا الدمشقي، أكبرَ مدافعٍ عن الأيقونة. وهي نفسها كانت رائدةً في التقارب وقبول الآخر بشخص بطريركها بطرس الثالث زمن الانشقاق الكبير. وكنيسة روسيا رفدت الكنيسة الأنطاكية بالثقافة اللاهوتية في الوقت الذي كان من الصعب على أنطاكية فتح مدارس اللاهوت. فمن أكاديمية كييف اللاهوتية وفي أواخر القرن التاسع عشر تخرج الشماس اسكندر طحان الذي استلم دفة سفينة الرسولين سنة 1933 بطريركاً باسم ألكسندروس الثالث. وكلّي أملٌ بأن نتمكّن من تمتين عرى التعاون الأكاديمي بين مؤسساتنا اللاهوتية حتى يبقى الفكر الأرثوذكسي المبنيّ على الصلاة والتقوى فكراً متّقداً يحاكي الحداثة من منطلق الانفتاح وقبول الآخر وضرورة مدّ الكلمة المحيية إلى عالم اليوم.

وأنطاكية التاريخ هي نفسها أنطاكية الحاضر التي يعيش شعبها الآن فترةً هي الأجدر أن تسمى بـ "محك مسيحيتنا". لدينا مطرانان مخطوفان وكهنة وراهبات وعلمانيون وعلمانيات يشهدون إلى الآن ليسوع المسيح ولكل القيم الإنسانية السامية في الأرض التي عرفت أولاً لقب "المسيحيين". ولنا شعبٌ مشرّدٌ أبعدته الأحداث عن دياره وكنائسه. نأمل بصلواتكم وجهودكم أن نراهم بيننا سالمين في أسرع وقت، وأن نرى السلام يعود ليبلسم قلوب المؤمنين جميعاً.

قواكم الله في سعيكم وزادكم من نعمه السماوية. وأطلب إليكم أن تصلّوا من أجل كنيستنا الجريحة وبلادنا المتألمة ومن أجل عودة السلام والاستقرار إليها. ومن جديد أقول مع سلفي غريغوريوس الرابع : "أدام الله رحمته على روسيا".

> انقر هنا لقراءة الخبر ومشاهدة الصور