عظة البطريرك يوحنا العاشر في رأس السنة…



2019-01-01

عظة البطريرك يوحنا العاشر

في رأس السنة الميلادية، الكاتدرائية المريمية بدمشق 1 كانون الثاني 2019

 

أيها الأحبة،

في رأس السنة الميلادية نقرع أجراسنا ونصرخ مُسبّحين المسيح: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفِي الناس المسرة.

المجد لله الذي خلقنا من فيض محبته وسكب فينا روح قدسه. المجد له وهو العلي المتنازل إلى ضعتنا والقدير المؤازر لضعفنا. المجد له آباً كلي المحبة وابناً أحب حتى الصليب وروحَ قدسٍ يقوي خطانا ويزنر حياتنا بمحبة يسوع. لقد تُهنا كبشر في معاصي آثامنا فنقب السموات وحل بيننا. تمرمرنا بغربتنا فبلسم حياتنا بأسراره المقدسة. نهشنا الجوع فغذانا بقربانه ومرمرنا الظمأ فكواه بدمه الكريم إكسير حياة وتقديس. المجد له وهو الصامت الأكبر في لهاث التاريخ والهادر الأعتى في عباب حياتنا. المجد له وهو رب السلام الهاجع في مزود محبته والناظر من علياء صليبه الخليقة المفتداة. 

في هذه الأيام يزور الطفل يسوع قلب كل منا ويطرق مغارة نفسه بتعزيته ومحبته. يسوع هنا هو بلسم حياتنا. وكأني بهذا الطفل يخاطب كل إنسانٍ ويتوجه إلى قلبه بدفء كلماته: إذا تعبت أيا إنساني فأنا حبيبك الذي تجسدت من أجلك. أنا لك كل بالكل. أنا السلام وسط حروبك وأنا الشراع لبحر حياتك. لم آتك جالساً على العروش، بل في زاوية مغارة. من أجلك افترشت المزود وسكنت حشا البتول. لم أكن أفضل منك حالاً، لا بل شاركتك ضيقاً وقاسمتك تعباً وألماً ومحبةً فأفضت لك حياةً.

أيها الأحبة،

لقد قاست هذه الكنيسة والمنطقة وكل بقعة من هذا البلد مأساة الحرب دموعاً وموتاً وضيقاً ولسان حالها: من بعد الصليب قيامة. نحمد الله أننا نعاين هذا الآن وأن السلام عاد ويعود ليزين سماء دمشق وغيرها ويعود تدريجياً ليشمل كل المناطق. نحن اليوم ننشد "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة" وعيوننا شاخصةٌ إلى طفل المغارة وإلى أمه مريم التي نكرمها جميعاً مسلمين ومسيحيين. ننشدها وفي قلوبنا الشكران والحمد لله القدير وفي نفوسنا الصلاة من أجل من طالتهم نار الحرب الآثمة موتاً وتهجيراً وأذىً وإرهاباً. ننشدها وفي القلب صلاةٌ من أجل كل مخطوف وكل من في ضيق. ننشدها وفي القلب دمعة الفرح والرجاء نسكبها على قدمي هذا الطفل الإلهي الذي نتلمَّس من قلبه ونظرته كل حنانٍ ورأفة وقوةٍ وشكيمة. 

المسيحية أولاً وأخيراً شهادةٌ للرب يسوع ولقيمه وإنجيله. المسيحية لا تنحصر بكونها مجرد انتماء ديني اسمي بل تتعداه لتكون أنموذج حياة تحيق به هذه الدنيا بروائعها وسلامها ومنزلقاتها وأخطارها. وهنا أريد أن أنوِّه إلى أن العالم الأرثوذكسي يحوطه في هذه الأيام العديد من المخاطر التي قد تؤدي إلى مواجهات وصدامات في أكثر من مكان، مبتغاها زعزعة وحدة العالم الأرثوذكسي. وكنيستنا الأرثوذكسية الأنطاكية، هنا في الشرق، وفي سوريا ولبنان تحديداً، ليست خارج هذه الاعتبارات. ولذلك أريد أن أؤكد من جديد أننا كمسيحيين مدعوون أن نقول كلمة الحق بالوفاق والتوافق، لا بالتنافر والارتهان، وأن روح الاستقلالية والتفرُّد هو أخطر ما يجري في الكنيسة. وأؤكِّد أيضاً أننا كمسيحيين مشرقيين أرثوذكسيين أنطاكيين مدعوون أن نكون دوماً روحاً واحدة وجسداً واحداً وجسر تواصلٍ بين الجميع. نحن أبناء هذه الأرض التي لامست أقدام الرسل وعكست ومنذ ألفي عام صدى نشيد الملائكة مجداً لله في علاه وسلاماً في أرضه ومسرةً في الأنام. 

نصلي من أجل سوريا ووحدة تراب سوريا ونثق ونيقن أن السوريين قائمون من تحت رماد الأزمة ومتشبثون بقوة الحياة التي ستغلب كل أشكال الموت. لقد آن لإنسان هذا البلد أن يركن إلى سلام ربه ورحمة مولاه الإلهي. لقد آن لصوت السلام أن يغلب ضوضاء الحروب ولصوت الحكمة أن يغلب لغة المصالح. ومن هنا ندعو كافة الأطراف الدولية إلى احترام المواثيق الدولية في الحفاظ على سيادة الدول وصيانة حدودها المعترف بها. يكفي سوريا حرباً ويكفينا دماءً طاهرة سالت على تراب الوطن لتحافظ على ساكنيه ومؤسساته. لقد دفع المسيحيون مع غيرهم من أبناء هذا البلد ثمن سيادة القرار والكرامة. ونحن هنا لنعلي الصوت من جديد ونقول: ارفعوا عنا الحصار الاقتصادي الخانق الذي يستهدف لقمة أهلنا وفقيرنا ويدفع مع الظروف الحالية بالكثيرين إلى الهجرة. 

نصلي من أجل مخطوفينا كل المخطوفين ومنهم أخوانا مطرانا حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي جرحُ كنيسةِ أنطاكية النازف واللّذان تبقى قضيتهما وصمة عار ودليلاً على تعليب النظريات الانسانية والاستنساب في تطبيقها طبقاً للمصالح.

صلاتنا من أجل لبنان واستقراره وأمنه. صلاتنا أن يديم الرب مراحمه على لبنان ويحفظه في البركة. ندعو جميع الأطراف إلى تغليب منطق الحوار وإكمال مسيرة العهد الرئاسي بالإسراع بتشكيل الحكومة منعاً لأي تدهورٍ اقتصادي ورأفة بالإنسان الذي يقاسي في سبيل لقمة العيش. وندعو إلى التمسك بكل ما من شأنه تمتين الوحدة الوطنية والحفاظ على الميثاقية الدستورية وضمان التمثيل الصحيح في الدولة وذلك تدعيماً لمسيرة العهد الرئاسي في الحفاظ على دولة المواطنة والعيش الواحد بين كل الأطياف.

صلاتنا من دمشق من أجل فلسطين الجريحة ومن أجل كل أرضٍ محتلةٍ. صلاتنا من أجل مهد المسيح ومسراه إلى قلوبنا جميعاً مسيحيين ومسلمين، صلاتنا من أجل القدس التي ستبقى عصية على كل مؤامرة وستبقى في وجداننا وكياننا، من كل الأديان، معراجاً ومحجّةً إلى رحمانية الله. في القدس نفتقد ونتلمس، كما قال أسلافنا البطاركة، وجه الله. ووجه الله لن يغيب عن هذا الشرق.

صلاتنا من أجل العراق ومن أجل كل بقعة من هذا الشرق ودعاؤنا نرفعه من أجل السلام في العالم أجمع.

ولأبنائنا في الكرسي الأنطاكي في الوطن وبلاد الانتشار طيب السلامِ بالمسيح يسوع والبركة الرسولية من كنيسة الرسولين بطرس وبولس ومناجاة من القلب إلى القلب وصلاة حارة إلى الرب القدير أن يملأ حياتكم بحضوره وقلوبكم بمراحمه ويهبكم من مَعينه كل خير.

والشكر للإعلام المرئي والمسموع ولصوت النعمة الذي نقل من دمشق صوت سلامنا سبحاً لرب السموات وسكبه في المسامع والقلوب.

فأنتَ إذاً أيا إنسان، لا تدع الأيام تتوالى عليكَ تلقائياً، فقد تأتيك قديمةً وعتيقة. اقتحم الزمن، جدِّده، واجعل أنت الأيام الآتية عليكَ جديدة، فها السموات قد انفتحت وأطلَّت عليك النِّعم والبركات، وآنذاك تضم صوتك إلى صوت ناظم التسابيح وتقول:

"افرحوا أيها الصديقون ويا سموات ابتهجي وتهللي ياجبال بميلاد المسيح"[1]

له المجد والرفعة أبد الدهور آمين.



[1] من إينوس عيد الميلاد.