دير مار إلياس - شويّا البطريركيّ



دير مار إلياس شويّا البطريركيّ

المصدر: كتاب "أديار الكرسي الأنطاكي"، منشورات جامعة البلمند، 2007.

 

دير مار إلياس شويّا، في منطقة المتن، على بعد واحد وثلاثين كيلو مترًا عن بيروت، أشبه بقلعة شامخة تكلّل قمّة من الحجر الرمليّ. يرتفع الدير ألفًا ومئة وخمسين مترًا عن سطح البحر ويُشرف على مجموعة من المصايف المعروفة كبكفيّا والخنشارة والشوير و على شريط من القرى الواقعة في سفح الجبل كالزغرين وشويّا وعين التفاحة وشرين والجوار. تكسو المنطقةَ بأكملها غابات الصنوبر الجميلة، وتكثر في الأراضي المحيطة بالدير أشجار السنديان والأوكالبتوس والصفصاف وقصب السكر والتفاح والإجاص والخوخ والدرّاق وكروم العنب الممتدّة على الجُلول الجبليّة.

 استُخرجت حجارة الدير من المرتفع المجاور، ما يجعله منسجمًا مع الخلفيّة المحيطة به، حتى إنّه يبدو، للناظر إليه عن بُعد، كامتدادٍ طبيعيّ للمنحدر الجبليّ. نبيّ العهد القديم، إيليّا، هو قدّيس لا يكرّمه المسيحيّون فحسب بل أيضًا المسلمون وبخاصّة الدروز. وهو يكوّن، بالإضافة إلى القدّيسين جاورجيوس وميخائيل، ثالوثًا من القدّيسين المحاربين الذين كُرّست على اسمهم كنائس وأديار عدّة في لبنان. فإيليّا المُدافع عن الإيمان لم يتردّد في قطع رؤوس كهنة الإله الفينيقيّ بعل، الذي كان يعبده ملك إسرائيل آحاب وزوجته إيزابيل. ورغم كونه نبيًّا من العهد القديم، إلاّ أنّه يُعتبر مثالاً ساطعًا على الحياة الرهبانيّة، بسبب سكنه الطويل في البرّيّة، حيث كانت طيور الغربان تأتيه بالطعام. يقع هذا الدير الأرثوذكسيّ إلى جانب دير مارونيّ، مكرّس بدوره للنبيّ إيليّا، وتابع للرهبنة المريميّة، التي كانت سابقًا تعرف بالرهبنة الحلبيّة.

دير مار إلياس شويّا هو المقرّ الصيفيّ للبطريرك. وما يزال هذا الدير محجّة للمسيحيّين: ففي العشرين من تمّوز، يوم عيد شفيعه، يأتي الناس من جميع الأنحاء ليشاركوا في الاحتفالات الليتورجيّة التي تقام فيه.

دير مار إلياس شويّا البطريركيّ
 الرئيس صاحب السيادة الأُسقُف قسطنطين (كيّال)، أُسقُف الزّبَداني، الجزيل الاحترام
 العنوان البريديّ دير مار الياس شويّا، المتن الشمالي -لبنان
 الهاتف  390046 4 00961
 الخليوي 349337 3 00961
الفاكس  393589 4 00961
البريد الإلكتروني
[email protected]

 

تاريخ الدير

تقدّم لنا المحفوظات والكتابات المنقوشة والهندسة المعماريّة معلومات ضئيلة جدًّا ومتعارضة أحيانًا حول أصل الدير. فأقدم وثيقة موجودة تتحدّث عن شراء أرض وتحمل تاريخ العام 1004 الهجريّ، ما يوازي 1595 – 1596 للميلاد.

يذكر إدمون بليبل، في تاريخه حول بكفيّا، أنّ دير مار إلياس شويّا الأرثوذكسيّ بُني، في العام 1612 على قطعة أرض، يملكها الكاهن بطرس الكلِنك، الذي تبرّع أيضًا بالأراضي الديريّة الجديدة في أبو ميزان والزغرين. مع ذلك، ثمّة دليل هندسيّ على وجود تاريخ تأسيس أقدم للدير، في القبو الذي يحتوي على ستّ صوامع يتّصل بعضها ببعض عبر أبواب صغيرة، وعلى غرفتين أكبر حجمًا كانتا تشكّلان على الأرجح كنيسة ذات جناحين. وقد نُحتت هذه الغرف في المنحدر الجبليّ وأُكملت، في جهتها المفتوحة، بسقف تعلوه قبّة أسطوانيّة وجدار سميك؛ وهذا شكل معروف بانتمائه إلى العصور المسيحيّة الأولى (القرنان الخامس والسادس) والعصر الصليبيّ (القرن الثاني عشر إلى الثالث عشر). وفي كلا الحالتين، يبدو أنّ دير مار إلياس  شويّا، شأن معظم الأديار الأرثوذكسيّة، شهد حركة إحياء جديدة في العهد العثمانيّ، بعد فترة طويلة من الهجران.

 عانى الدير من جرّاء انشقاق العام 1724. فقد تقلّبت ملكيّته بين الروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس، تبعًا لمن من الطائفتين، يُقدّم مداخيل أكبر لأمراء أبي اللمع الدروز المحلّيّين. في العام 1728 يذكر الرحّالة الروسيّ بارسكي وجود خمسة رهبان في دير مار إلياس شويّا. وثمّة وثيقة، نشرها المؤرّخ أسد رستم، تفيد بأنّ الروم الأرثوذكس استعادوا الدير نهائيًّا في العام 1749، عندما دفع يونس نقولا الجبيلي ألفًا وخمسمائة قرش للأميرين إسماعيل وحسن أبي اللمع. وقد عهد يونس بالدير إلى الرهبان الأرثوذكس، وتعهّد أمراء أبي اللمع من جهتهم بحماية الرهبان والاستماع إلى شكواهم. وتدلّ هذه الوثيقة النموذجيّة على مدى هشاشة وضع أراضي الوقف في تلك الحقبة الزمنيّة. إذ كان رهن الأديار بهذه الطريقة شائعًا، لكونه طريقة مناسبة لزيادة الانتاج الزراعيّ وعائدات الضرائب.

 مع ذلك، يمكن القول إنّ تاريخ دير مار إلياس شويّا الحديث بدأ في العام1760، عندما أعاد بناءه أحد أعيان بيروت، يونس نقولا الجبيلي، ورئيس الدير صفرونيوس الصيقلي، إثر زلزال قويّ. وثمّة كتابة فوق الباب الشماليّ للكنيسة تسجّل هذا الحدث. رغم المنافسة السياسيّة والعشائريّة المزمنة، في جبل لبنان، شهد دير مار إلياس شويّا ازدهارًا ملحوظًا في أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر. فكان يتلقّى الودائع من تجّار الروم الأرثوذكس الأثرياء من بيروت والبقاع، ويمنح القروض لملاّكي الأراضي في المنطقة ومتعهّديها. من هنا استملك الكثير من الأراضي واتّسعت ملكيّة أوقاف الدير، وقوامها أراضٍ في منطقة أبوميزان المجاورة والقنّابة المجاورة لبرمّانا، كما أصبح الدير مركزًا معروفًا لإنتاج الحرير.

طوال هذه الفترة اعتمد ازدهار الدير، إلى حدّ كبير، على حسن العلاقات بين رؤسائه والأعيان المحلّيّين. فعلى سبيل المثال، كان مكاريوس، رئيس الدير بين 1833 و1872، حليفًا للأمير حيدر أبي اللمع وصديقًا له، وقد آوى الدير زوجة حيدر وأولاده عندما نفته الحكومة المصريّة في العام 1840. وعندما عاد الحكم العثمانيّ إلى المنطقة في العام 1845، قُسّم جبل لبنان إلى قائممقاميّتين درزيّة ومسيحيّة ونُصّب حيدر حاكمًا على القائممقاميّة المسيحيّة. في تلك الأثناء، كان الدير يضمّ ثمانية رهبان وثمانية خدّام، ويدلّ على ازدهاره بناء المزيد من الصوامع في العام 1841. ويروي الرحّالة البريطانيّ دايفد أوركهارد، الذي زار دير مار إلياس شويّا في العام 1850، أنّ الدير كان يستفيد من إنتاج الحرير المهمّ، وأنّه كان على أهبة الشروع ببناء قسم جديد بجانب الكنيسة.

 أسّس الدير مدرسة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، درّس فيها أساتذة شهيرون، وأنشأ لاحقًا مدارسَ ابتدائيّة في القنّابة وأبو ميزان لأطفال متعهّدي الأراضي المحلّيّين.

برز أثر روسيّ قويّ في دير مار إلياس شويّا بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر: فالقناصل الروس قدّموا المنح للمدرسة، وأقام المستشرقون والدبلوماسيّون الروس، أمثال بارسكي وباسيلي وكريمسكي وكرشكوفسكي، في الدير لفترات متفاوتة، وذلك قبل تأسيس الجمعيّة الإمبراطوريّة الروسيّة الفلسطينيّة وبعدها. كما قدِم رهبان روس إلى الدير عندما عاد البطريرك غريغوريوس الرابع (حدّاد) من روسيا العام 1910، وبقوا فيه ما يقارب خمس سنوات مُدخلين عليه إضافاتٍ وتعديلات عدّة. وقد جعلتهم بساطتهم وتقواهم محبَّبين إلى قلوب السكّان المحلّيّين، غير أنّهم أُجبروا على الرحيل عندما أعلنت تركيا الحرب على روسيا العام 1915.

 بادر البطريرك غريغوريوس الرابع إلى شقّ طريق يربط الدير بقرى الشوير والطريق السريع. وكما اهتمّ البطريرك نفسه كثيرًا بإنتاج الدير الزراعيّ ومتعهّدي أراضيه من الفلاّحين. ففي العام 1906، نصح البطريركُ رئيسَ الدير جراسيموس الدمشقيّ ببناء منازل جديدة لمتعهّدي الأراضي في أبو ميزان، وقام بزرع اثني عشر ألف شجرة توت في أراضي الدير.

خلال النصف الأوّل من القرن العشرين، استمرّت مدرسة الدير باستقبال التلاميذ وتعليمهم. وقد أتمّ بعض الأساقفة دراستهم الابتدائيّة هناك، قبل الانتقال إلى البلمند، لمتابعة تحصيلهم العلميّ. وفي أزمة الحرب الأهليّة اللبنانيّة، تضرّر الدير بفعل القصف، فشرع رئيسه بترميم ما هدم واستمرّت هذه العمليّة حتّى العام 1996.

 

هندسة الدير

الدير بكامله مبنيّ بالحجارة الصفراء المغريّة اللون المستخرجة من المنحدر الجبليّ. وتتبع هندسته أربعة أنماط مختلفة.

 1.الطابق السفليّ: العصر الوسيط

يحتوي الطابق السفليّ على غرفتين تعلو كليهما قبّة أسطوانيّة، وتفصل بينهما قناطر، وتستمدّان نورهما من نافذة ضيّقة. تشبه هاتان الغرفتان الكنائس ذات الصحنين الموجودة في شمال لبنان، وربّما كانتا تشكّلان كنيسة الدير القديمة. بمحاذاتهما نجد ستَّ صوامع تعلوها قببٌ معقودة، وتصطفّ كلّها بمحاذاة المنحدر الجبليّ. وقد نُحتت مداخلها الضيّقة، الأشبه بكوّات الحصون، في جدار تبلغ سماكته تسعين سنتيمترًا. هذه الصوامع مرتّبة من الشرق إلى الغرب تصاعديًّا بحسب حجمها. والأبواب التي تصل بعضَها ببعض تصغر تدريجيًّا بدورها بحيث يتوجّب على الزائر أن ينحني ليمرّ عبرها. وترمز هذه المميّزات إلى التدرّب التدريجيّ على الحياة الرهبانيّة المتمحورة حول التأمّل والصلاة. والواقع أنّ هذه الصوامع شديدة الشّبه بالصوامع القديمة الموجودة في دير صيدنايا في سورية. والصومعة الأولى تحتوي على ضريح مكاريوس صدقة متروبوليت بيروت المثلّث الرحمة الذي توفّي، في نهاية القرن التاسع عشر، والذي ما يزال جثمانه غير متحلّل.

 لا وجود لأيّة كتابة تحدّد تاريخ الطابق السفليّ، لكنّه على الأرجح يعود إلى القرن الثالث عشر على الأقلّ. وكانت هذه الغرف تستخدم لفترة طويلة كمخازن للحبوب وإسطبلات لكنّها اليوم فارغة. وثمّة شبكة حديديّة على شكل باب تفصل هذا المكان عن درج يقود صعودًا إلى الطابق الأرضيّ.

2.أبنية الطابق الأرضيّ

تشمل أبنية الطابق الأرضيّ الكنيسة، الصوامع، وغرفة استقبال بنيت حول ساحتين داخليّتين صغيرتين، والمجموعة هذه بناها يونس نقولا الجبيلي في العام 1760. ويبلغ الزائر إليها عبر بهو رئيس يمتدّ انطلاقًا من الشرفة الخارجيّة التي تقدّم لعين الناظر منظرًا خلاّبًا للجبل.

الساحة الداخليّة الأولى مثلّثة الشكل، يحدّها جدار الكنيسة الجنوبيّ وإحدى عشرة صومعة مقبّبة تتقدّمها سلسلة من القناطر. هذه الصوامع، التي يفوق حجمها حجم صوامع الطابق السفليّ بقليل، مزوّدة بنوافذ واسعة وبجدار خارجيّ ضخم. يجتمع السكّان المحلّيّون في هذه الساحة أيّام الآحاد والأعياد لقرع الجرس الذي يعلو باب الكنيسة العربيّ النمط. ربّما كان هذا الباب بابَ الكنيسة القديمة التي هدمها زلزال العام 1759. وثمّة لوحة تذكاريّة تشير إلى عمليّة إعادة البناء وتحمل حروفُها العربيّة قيمةً عدديّة رمزيّة تساوي: 4 نيسان 1760. تعلو البابَ واللوحةَ التذكاريّةَ عتبةٌ حُفرت عليها رموز دينيّة. وترتبط الساحة الثانية بالأولى عبر ثلاث درجات. وهي أضيق من الأولى وتحوط بها الواجهة الغربيّة للكنيسة وغرفة الاستقبال وبهو يصل الكنيسة بالبناء الذي شيّده الرهبان الروس في نهاية القرن العشرين.

تتقدّم بابَ الكنيسة الكائن في وسط الواجهة الغربيّة شرفةٌ تشبه زخرفتها زخارف البيوت في دير القمر وبيت الدين. وربّما أتت العناصر الزخرفيّة المستخدمة لتزيينها من إيطاليا، وذلك بعد أن انفتح جبل لبنان على التجارة مع الغرب. ولكن في ما خلا ذلك، فالكنيسة ذات بساطة لافتة: ثمّة نافذتان في الجدار الشمالي ينسلّ عبرهما نور طفيف إلى داخلها. ورغم صغر حجم الكنيسة، تمنحها قبّتُها المضلّعة شيئًا من الاتّساع. وتجتمع أقواس هذه القبّة في وسطها لتشكل نجمًا مثمّن الأضلع تزيّن نقطته المحوريّة زهرةٌ جميلة.

نفّذت أيدي الفنّانين اليونانيّين الدقيقة والبارعة الإيقونسطاس المحفور من خشب الجوز في بدء القرن العشرين. أمّا الباب الملوكيّ فتحدّه من جهتيه إيقونات الرسل الاثني عشر، وفوقها حفر ناتئ يمثّل فيلاً وحمامة وملاكين مزدوجي الرأس يرمزان إلى طبيعتي المسيح وملائكة أخرى ثلاثيّة الرأس ترمز إلى الثالوث، والحمل الذي يرمز إلى المسيح. النقوش الناتئة في المستويين الوسطيّ والسفليّ تصوّر البشارة، وقطع رأس يوحنّا المعمدان، والميلاد، والنبيّ إيليّا الذي يهمّ بقتل كهنة البعل. ويتناسب كلٌّ من هذه النقوش مع موضوع الإيقونة التي رُفعت فوقه. بالإضافة إلى ذلك، نجد في أجزاء الإيقونسطاس، كافّة، أشكالاً من عالم النبات تتشابك معًا وتُحبك بشكل زخرفيّ جميل.

 إلى اليمين عرش الأسقف أو رئيس الدير وتكلّله قبّة تزيّنها الأزهار والعربسات وملاك يحمل ثعبانًا، ما يرمز إلى الانتصار على الشرّ. ويقوم إلى اليسار منبر يتلو منه الشمّاس قراءاته، يبلغ ارتفاعه مترين وتزيّنه حمامةٌ تُنـزِل الإنجيل وملاكان يحملان شمعدانين، تحوط بالكلّ زخارف العربسات وأشكال من أنواع الفاكهة. ويبدو أنّ القطعتين من تنفيذ فنّان واحد.

 3. مباني القرن التاسع عشر

شيّد بعضَ هذه المباني البطريرك ميثوديوس (1841-1842). وفي فترة لاحقة من القرن عينه، بنيت مدرسة على مستوى الطابق السفليّ القديم تشبه من الناحية الهندسيّة مدرستَي بكفتين والبلمند، رغم أنّها تصغرهما حجمًا. البناء مشغول بدقّة والتنفيذ رفيع المستوى. في المدرسة قاعتان كبيرتان، تعلو إحداهما قبّة أسطوانيّة والأخرى قبّةٌ مضلّعة، وقاعاتُ صفوف كثيرة تمتدّ على طول البهو. والأمر اللافت هو غياب ملعب مركزيّ، ربّما لأنّ برودة الطقس كانت تحول دون القيام بالنشاطات الخارجيّة. ولهذا السبب كان التلاميذ يمارسون نشاطاتهم الخارجيّة في الساحتين الموجودتين في الطابق العلويّ والمتّصلتين بالطابق السفليّ بواسطة درج، أو يقصدون الغابة والبساتين المجاورة. تختلف وظيفة الدرج الداخليّ عن غيره من الأدراج الموجودة في البيوت اللبنانيّة الجبليّة: فهو يسمح لسكّان الطابق العلويّ بجلب الطعام والوقود من القبو من دون الاضطرار إلى الخروج من المنزل. ومن المرجّح أنّ القاعتين استُخدمتا لمنامة التلاميذ، وهذه ميزة شائعة في معظم المدارس اللبنانيّة التقليديّة بسبب ندرة المواصلات أو سوء حالتها. وتحظى كلّ قاعة بإنارة كافية عبر نافذتين كبيرتين تشرفان على الوادي.

 4. مباني الرهبان الروس

في العام 1910، وُهب الدير إلى الرهبان الروس. ورغم أنّهم أقاموا فيه فترة قصيرة إلاّ أنّهم شيّدوا مبنى من أربعة طوابق إلى يمين مدخل الدير: يضمّ كلّ طابق علويّ ثلاث غرف، والطابق الأرضيّ مقسّم إلى إسطبلات وأقبية تستعمل اليوم لتخزين أخشاب الوقود. يتكوّن السقف من عارضات خشبيّة متوازية وألواح خشبيّة متقاطعة. وبما أنّ المنطقة قارسة البرودة في الشتاء، فقد بنى الرهبان الروس مدافئ في جدران الغرف تشتعل بواسطة مواقد صغيرة تعمل على الحطب. كما استحدثوا نظام ريّ يعمل يدويًّا: فتدفّق المياه إلى الحدائق والبساتين تنظّمه شبكة من الحبال يمكن التَحكّم بها من الدير.

 

المخطوطات والإيقونات

كان الدير، في ذروة ازدهاره، مركز الحياة الدينيّة والثقافيّة في المنطقة. فهو يملك ثلاثة وستّين مخطوطًا من بينها أربعة وخمسون كتابًا ليتورجيًّا تصف الاحتفالات والصلوات على مدار السنة. أمّا المخطوطات التسع الأخرى فتحتوي على مؤلَّفات لاهوتيّة كعظات القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، وكتاب القدّيس يوحنّا الدمشقيّ "في الإيمان الأرثوذكسيّ"، و"سلّم الفضائل" للقدّيس يوحنّا السلّميّ. وربّما كان أهمّ مخطوط في الدير هو "تيبيكون" القدّيس سابا وهو قانون قديم ينظّم الحياة الرهبانيّة والليتورجيّة، نُسخ في دير القدّيس يوحنّا – دوما في العام 1595. المخطوط الوحيد غير الدينيّ في المجموعة هو وثيقة حول رحلة أحد أعيان بيروت، فارس أبو حلقة، إلى فلسطين.

 الإيقونات الموجودة في دير مار إلياس شويّا قليلة ولكنّها متنوّعة. أقدمها، وهي إيقونة للنبيّ إيليّا، تعود إلى القرن العاشر أو الحادي عشر وقد وُضعت في صندوق زجاجيّ إلى يسار الكنيسة. تعرّضت هذه الإيقونة للتلف ويصعب تاليًا تمييز أسلوبها وطريقة تنفيذها. مع ذلك، يمكننا رؤية النبيّ قاعدًا في مغارة، كما يرد في سفر الملوك، يُحضر له طعامَه غرابٌ مرسل من الربّ. النبيّ إيليّا مرسوم بوضعيّة تأمّليّة، وجنته مستندة إلى يده اليمنى ورأسه مرفوع بعض الشيء. وهو يرتدي جبّة واسعة ثناياها عريضة وألوانها بسيطة.

نفّذ برثانيوس مطران طرابلس في العام 1761، وبعد إعادة ترميم الكنيسة، ثلاث إيقونات من الإيقونسطاس وهي تنتمي إلى المدرسة الحلبيّة لرسم الإيقونات، إذ تتميّز بالكتابة العربيّة ووجوه الأشخاص البنّيّة، وعيونهم اللوزيّة وثيابهم المذهّبة الفاخرة، التي تنمّ  عن ذوق المسيحيّين الذين سكنوا المدن السوريّة في ذلك الوقت وعن رغد عيشهم. الخلفيّة من اللون الذهبيّ الداكن المائل إلى البرتقاليّ. ويضفي امتزاج ألوان هذه الإيقونات المضيئة مع لون الإيقونسطاس الخشبيّ الداكن أثرًا دافئًا على جوّ الكنيسة.

الإيقونة الأولى تمثّل المسيح الأسقف، مباركًا بيده اليمنى وحاملاً الكتاب المقدّس المفتوح بيده اليسرى. وهو يرتدي تاج الأسقف وفوقه هالة تزيّنها نقوش العربسات الحلزونيّة وتزيّن جبّته المذهّبة أزهار ومربّعات. وتعجّ الإيقونة بالخطوط المذهّبة اللمّاعة التي تُبرز الشعر والملابس، حتّى إنّها تكاد تشبه قطعة مجوهرات ذهبيّة.

 تصوّر الإيقونة الثانية والدة الإله كملكة السموات المكلّلة بتاج ذهبيّ. وهي تشير بيدها اليمنى إلى المسيح الطفل الذي هو أيضًا متوّج. تحمل في يدها اليسرى وردة حمراء، وهي ترتدي جبة ذهبيّة ومعطفًا قرمزيًّا مرصّعًا بالنجوم المذهّبة. الألوان الحمراء والذهبيّة دافئة وحميمة، والوجوه على جمودها تشعّ بجمال هادئ ووقور.

 الإيقونة الثالثة هي إيقونة شفيع الكنيسة النبيّ إلياس الذي يهمّ بذبح كهنة البعل. وهو يرفع فوق رأسه سيفًا معقوفًا طويلاً، ويده اليسرى ممتدّة باتّجاه الرؤوس المكدّسة على الأرض. أمّا ثنايا جبّته المرسومة بحدّة لافتة فتعبّر عن حركات جسده.

 ثمّة ثلاث إيقونات أخرى رُفعت على الإيقونسطاس وهي ذات أسلوب مختلف جدًّا، وربّما كانت روسيّة الأصل، أحضرها الرهبان الروس معهم إلى الدير، في العام 1910. وهي تمثّل القدّيس جاورجيوس يقتل التنّين والقدّيس يوحنّا المعمدان والقدّيس إسبيريدون. والطريقة التي رُسمت بها الظلال في الإيقونة تضفي عليها نورًا باردًا يتناقض مع الإيقونسطاس الداكن. الوجوه شاحبة وتعابيرها شاحبة.

 كما نجد إيقونة تفتقد إلى توقيع وتاريخ ولكنّها على الأرجح رُسمت في بدء القرن التاسع عشر. وثمّة كتابة مرافقة لها تفيد أنّ شخصًا اسمه فرح قد أوقفها للدير عن راحة نفس والده. موضوع هذه الإيقونة فريد إذ نرى فيها أربعة مشاهد من حياة النبيّ إيليّا. ففي الوسط نهر الأردنّ تحوط به من الجانبين تلال بنّيّة اللون؛ إلى اليسار النبيّ إيليّا راكعًا ورافعًا يديه نحو السماء، أمامه عجل مذبوح ومقدّم محرقة للربّ؛ في الأسفل إلى اليمين نرى إيليّا يتفيّأ شجرة يحضر له طعامه ملاك مرسل من الربّ؛ وفي الأعلى إلى جهة اليمين يعاين إيليّا الساجد المسيح الذي يظهر له في دائرة زرقاء يحدّها ملاكان رُسما وسط غمام ورديّ. يحمل المسيح بيده اليمنى رقًّا يُقرأ فيه "رفض شعب إسرائيل الربّ وهدموا هياكله". وفوق التلّ نرى النبيّ إيليّا يرتفع إلى السماء في مركبة من نار يجرّها أربعة أحصنة، مسلّمًا جبّته المثنيّة إلى تلميذه أليشع الواقف على قمّة التلّ، والذي يهمّ بضرب نهر الأردن، بجبّة معلّمه، كي يتمكّن من العبور بين مياهه المنقسمة من دون أن تبتلّ قدماه. وفي العادة، يوحي موضوع انتقال النبيّ إيليّا بالعربة الناريّة إلى السماء، بالكثير من الرسومات الزخرفيّة. أمّا في هذه الإيقونة فتصميم الموضوع بسيط جدًّا، ولكنّه قويّ ويكاد ينحو إلى التجريد. الألوان خضراء وحمراء وسوداء وبنّيّة أمّا الخلفيّة فذهبيّة