كلمة البطريرك يوحنا العاشر في تنصيب المطران…



2018-07-13

كلمة البطريرك يوحنا العاشر

في تنصيب المطران سلوان موسي مطراناً على أبرشية جبيل والبترون وما يليهما، كنيسة القديس جاورجيوس - بصاليم ١٣ تموز ٢٠١٨

أيها الأحبة،

سِلوان الله لأنطاكية أن يرتشف شبابها من "خُضر" شيبها فتزهر دوماً للمسيح وتبْسُق بالروح كأرز لبنان.

ومن بلد الأرز الخالد ومن فيء صنين، نطل عليكم جميعاً يا إخوة إطلالة المحبة على لبنان وعلى أبرشية جبل لبنان، جبيل والبترون وما يليهما، الجذعِ المسيحي الحي الضارب في التاريخ، حاملين في القلب أيضاً أبناءنا في الأرجنتين الغصن الندي من الدوحة الأنطاكية الكبرى، كنيسة أنطاكية وسائر المشرق.

قد تعجز الكلمة في كثير من الأحيان عن سبر مكامن النفس وتجسيد اللامنظور. ولعل ما يعزّينا في كنيسة أنطاكية أننا من ذرية أولئك الصيادين الذين اقتنصوا العالم ببساطة الكلمة وبمحبة الإنجيل. فنحن إذاً من كنيسة الكلمة التي تُلبس الروح وشاح الهيولى لتغدو صنارةً تغزو ألباب ذوي الفكر وتغرس الله في كيانهم. ولعل لقب "صنارة الكلمة" هو أعدل وأوفى ما نخاطب به سيدنا جورج خضر في هذا العرس الأنطاكي البهي والذي تعجز فيه كلماتي وتغور. تعجز كلماتي وتغور في لجج الحيرة والوقار أمام هذه اللحظة البهجة وأمام سيد الكلمة وصنارة الكلمة المطران جورج ومقتبل الأمانة المطران سلوان. 

أمام "صنارة الكلمة"، المطران جورج، تعجز الكلمة أن تفي حق الكلام. وهو الذي قام على رعاية هذه الأبرشية لما يقارب نصف قرن. وإذا كانت جبيل هي من أعطت الحرف للدنيا فإن مطرانها هو بلا شك فارس الحرف وقبطانه.

المطران خضر هو صنارة الكلمة بالمعنى الكتابي المسيحي للفظة، هو صنارة الرب يسوع المسيح. هو صنارة لرسله الأطهار، لصيادي صور وصيدا ولأبناء قانا، لأولئك الجليليين الذين حلوا عقد الفلاسفة بقوة الكلمة الإلهية. لم يجد يوحنا الإنجيلي أبلغ من لقب "الكلمة" ليعبر فيه عن يسوع المسيح كلمةً لله الآب. والمطران خضر كان واحداً ممن عشقوا كلمة الله، يسوع المسيح، وأنبضوها في رحاب كنيسة أنطاكية وجسدوها محبةً وحركةً أرثوذكسيةً ورعايةً وفكراً وحكمةً وتبصراً وتواضعاً وحلاوةَ إنجيل.

وهو أيضاً صنارة الكلمة البشرية البشارية التي تَكْلم القلب والكيان برحيق الحق فتجرح فينا جداول الشوق والعشق للرب الخالق. فكانت كلمته البشرية الهيولية بمثابة صنارة الرسل وعبق محبتهم وحكمتهم التي فاحت على الشرق من كل الأطياف. فهو بحقٍّ صنارة الكلمة التي فهمت الإسلام، وفارس سبت "النهار" ومطران الكلمة التي عانقت لبنان وناجت سوريا وغاصت في بحور علوم الدنيا وارتشفت من أنطاكية المسيحية وعانقت القدس الشريف وفلسطين الجريحة لترسو على قلوبنا بنور الإنجيل.  

نُكبر فيك يا سيدنا محبتك وتواضعك. لقد لاق بتلك اليمين التي سلمتني باسم آباء المجمع المقدس، عصا الرعاية البطريركية أن تسلّم الأمانة بعد نصف قرن وتخطَّ لنا مثال تعاملٍ كنسيٍّ يَرى في الاستعفاء إقراراً بوجوب الحفاظ على دفق الرعاية، ويرى فيه أيضاً ثقة الأقدمين بالآخِرين وإقراراً وإيقاناً أن كرسي الأسقف هو كرسي رعاية ولا شيء سواه واعترافاً أن المجمع المقدس هو المرجع الأول والأخير والضمانة الأولى لكرامة الرعاة والمؤتمن أمام المسيح له المجد لتسليم الأمانة لخير الرعاة وحسن سير الرعية.

نسلّم اليوم دفة هذه الأبرشية للمطران سلوان وهو الذي اختاره الروح يوماً أن يستلم دفة أبنائنا ما وراء البحار في الأرجنتين. لقد نشأت، أيها الأخ الحبيب، على الإيمان في عائلة تقية في طرابلس وترعرعت في الأحضان الكنسية فعشت في حركة الشبيبة الأرثوذكسية وأكملتَ علومك في بيروت. ومن ثم اقتادك حبك ليسوع إلى الخدمة في كنيسته والتشرّب من علوم الدنيا فعبرْتَ من بيروت إلى باريس فاليونان فحلب فأسترليا ومن ثم إلى الأرجنتين. وفي الأرجنتين عملت وعلمت ونقلت الفكر الأرثوذكسي والتراث الأنطاكي الى اللغة الإسبانية وأسست الهيئات والجمعيات وكنت قريباً من الكبار والصغار منصرفاً إلى خدمة الكلمة، منفتحاً على الحوار مع الكنائس الأخرى. وقد كانت أبرشيتك في الأرجنتين، بتوجيه منك، متحسسةً دائماً آلام الإخوة في الكنيسة الأم ومساهمة في تخفيف أوجاع الذين عانوا من ويلات الحرب. ولقد آثر المجمع المقدس في قراره الأخير نقلك استثنائياً وتدبيرياً كمطران على الأرجنتين إلى أبرشية جبيل والبترون ومايليهما. ونحن نضعها في يديك ولنا ملء اليقين والثقة "أن تكون بمَثلك الصالح قدوة للجميع، صائراً للكل كل شيء لكي تربح الكل، وتقدمهم لله شعباً خاصاً"[1].

اليوم نرفع صلاتنا وفي قلبنا هذه الأبرشية العزيزة بكل أبنائها وأديارها وكنائسها وكهنتها ورهبانها وراهباتها ورعاياها وهيئاتها ومؤسساتها. إن أبرشية الجبل شجرةٌ مثمرة في بستان أنطاكية الحبيبة. وكونها شجرةً كثيرةَ الثمر، يسعى الشرير إلى النيل من ثمارها. مسؤوليتكم، يا أبناءنا في الأبرشية، أن تتعانقوا كأغصانٍ نضرةٍ قويةٍ ووارفة ومتعاضدةٍ وتتكاتفوا مع راعيكم الجديد كي تحفظوا ثماركم سالمةً لا تنالها حجارة الشرير ولا تؤذيها سهامه السّامة. نرفع صلاتنا وبخورنا من أجل الراعي الجديد ونقرع معها أجراس الكنائس والأديار بقوة وعزيمةٍ وإصرار. نحن أبناء هذه الجبال وهذه الوديان. نحن أصداء أجراسها التي ترنم للرب. ونحن أبناء أنغامها التي تلفح النفس بوميض يسوع. ودعوتنا اليوم، أيها الأحبة، أبناءُ هذه الأبرشية، ألا ننسى أنّ ربّنا اختار جغرافية هذه الأرض المشرقية ليكون فيها. ورسله الأطهار من بعده كانوا هنا أو على مقربة من هنا. هذه الأرض، يا أحبة، مهبط يسوع لافتقادنا. وهذا الشرق، يا إخوة، ميناء المسيح على بحر دنيانا. ومن هنا رسوخنا فيه وتجذّرنا، واتحادنا بهذه الأرض مهما جار الزمن.

أيها الاحبة،

في غمرة فرحتنا اليوم، نكرر عهد الحب الذي قطعناه نحن الأرثوذكس للبنان. ونشدد على انفتاحنا على جميع مكوناته، ولاسيما تلك التي نعيش معها في هذه الأبرشية. وندعو الجميع للإسراع في تشكيل الحكومة على قاعدة التمثيل الصحيح إتماماً لمسيرة العهد في اعتماد دولة المؤسسات ضمن الصيغة الميثاقية والعيش المشترك الواحد والمواطنة، الركائز التي يقوم عليها هذا البلد. ونغتنمها فرصة، لكي نشكر الله على التعاون القائم بين الكنائس في هذا البلد. ونرجو أن نتمكن معاً من القيام بأعمال مشتركة تساهم في ترسيخ أبنائنا في أرضهم وتأمين فرص العمل لهم وفي تنمية قدراتهم العامية والثقافية والاقتصادية والروحية للشهادة للمسيح القائم في هذا البلد.

وفي هذا اليوم أيضاً، نود أن نعبر عن محبتنا لإخوتنا المسلمين وبشكل خاص أبناء بني معروف الموحدين الدروز، الذين نعيش معهم في قرى هذا الجبل، والذين سنبقى نعمل معهم من أجل ترسيخ مصالحة الجبل، التي أساسها عودة الجميع إلى ديارهم.

نحييكم جميعاً أحبتي أنتم الذين شاركتمونا فرحة تنصيب المطران سلوان. ونؤكد ومن جديد بأننا سنبقى نعمل معكم من أجل الحفاظ على لبنان ومؤسساته ومن أجل كل ما من شأنه ترقية الإنسان فيه ونموه وتثبيته في أرضه.

صلاتنا أيضاً من أجل سلام كل العالم، وبخاصة من أجل السلام في سوريا. ولا ننسى فلسطين الجريحة والقدس الشريف والعراق وكل الشرق الأوسط.

ولعل ملف مطراني حلب يختصر ولا يختزل شيئاً من معاناة المسيحيين مع غيرهم كمواطنين أصلاء في هذا الشرق. لقد خطف المطرانان يوحنا إبراهيم وبولس يازجي والعالم يتعاجز بكل حكوماته وهيئاته ومنظماته. نحن لا نريد تباكياً من أحد ولا لغة عواطف بل لغة أفعال. لقد تاقت سوريا إلى أيام سلامها ومن حقها أن ترى بنيها الذين اقتلعتهم نار الحرب والتكفير في ديارهم من جديد.

وعندما نكون في جبل لبنان فلا بد لنا أن نستذكر بطريركاً عظيماً أنجبته هذه الأبرشية وهذه القرى المباركة وهو غريغوريوس الرابع حداد ابن قرية عْبيه في قضاء عاليه، مطران طرابلس وبطريرك أنطاكية لاحقاً في مطلع القرن العشرين. ونذكر هنا أيضاً البطاركة الآخرين الذين أنجبتهم أيضاً هذه الأبرشية وأعطتهم لأنطاكية في العصر الحديث. وهم أرسانيوس حداد من عْبيه، مطران اللاذقية وبطريرك أنطاكية لاحقاً، وثيودوسيوس السادس بو رجيلي من بْحمدون، مطران طرابلس والبطريرك الأنطاكي لاحقاً، والياس الرابع معوّض من أرصون مطران حلب وبطريرك أنطاكية وبطريرك العرب كما لُقّب لاحقاً.

أما غريغوريوس هذا فكان أيقونة كنيسة أنطاكية في العيش المشترك وفي التجذر بالإيمان في آن معاً. لا يتسع بنا المقام لأن نكرر قصة رغيفه الذي لم يميز بين مسلم ومسيحي أيام الحرب العالمية الأولى، ولن نتكلم عن غريغوريوس الذي باع صليبه الذهبي ليطعم الفقراء من كل دين ويقتني ذهب السماء. لكننا سنكتفي بقصة صغيرة تلخص حياة هذا البطريرك وتعاطيه المنفتح مع الآخر. وهي من جانب آخر تلخص تعاطينا نحن المسيحيين والمسلمين في صفحات من التسامح يذخر بها تاريخنا، وهي الأحوج أن تُستذكر وتُغرس في الأذهان في زمن يمتهن فيه الدين وتزيف فيه قيمه.

مرةً توسط غريغوريوس حداد وكان مطراناً على طرابلس، من أجل قاضي طرابلس المسلم الذي وُشي به لدى الحكام. وكان المطران غريغوريوس الوحيدَ، من بين كل الناس المتيقنين من براءته، الذي زاره في سجنه وقدم له المساعدة والمال. ولم يكتف بذلك لا بل دافع عنه في طرابلس وفي الآستانة حتى ظهرت براءته. من ثم دارت الأيام وارتقى غريغوريوس السدة البطريركية. وتوفي القاضي ومرت السنون. فما كان من ابن ذاك القاضي إلّا أن جاء إلى دمشق برفقة وجهاء مدينته ووافى البطريركَ قائلاً:

"أنا آتٍ من الآستانة لتنفيذ وصيّة والدي المتوفي فقد قال لي: سر إلى دمشق وقَبْل زيارتك للجامع الأموي اذهب وقبِّل يد بطريرك الروم".

فلما سأله عن والده عرف أنه هو الذي كان يساعده في اعتقاله. حكايةٌ بسيطة لكنها تختصر واقع وتاريخ عيش واحد كان ويبقى ويجب أن يعاش. ويد غريغوريوس هي يد كنيسة أنطاكية التي ما امتدت يوماً إلّا للقيا الآخر والعيش معه.

سلامنا من القلب لأبنائنا في الأرجنتين الذين نكنّ لهم كل محبة وتقدير ونسأل الله أن يحفظهم بمحبته وعنايته الأبوية. وليكن لهم ملء الثقة أن كنيسة أنطاكية، الكنيسة الأم، لن تدّخر جهداً كي تضع في محرس رعايتها راعياً يستلم الوديعة ويكمل الرعاية بعد المطران سلوان.

هنيئاً لأبرشية جبل لبنان بمطرانها الجديد وهنيئاً له بها وفخراً لها بالمطران جورج.

أيها الأخ الحبيب سلوان،

ها الأمانة بين يديك منذ اليوم. استلمها. واجعلها يوماً بعد يوم أكثر نقاءً وتألقاً، ليفرح بها المسيح ونفرح نحن بك ومعك. كان الله معك.



[1] نص الطرس البطريركي