القدّيسة البارة بلاجيا التائبة

2015-10-08


ولادتها
:‬
ولدت‭ ‬بيلاجية‭ ‬على‭ ‬الوثنية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬أنطاكية‭ ‬العظمى،‭ ‬وقد‭ ‬أنعم‭ ‬الله‭ ‬عليها‭ ‬بجمال‭ ‬أخّاذ‭ ‬سخّرته‭ ‬لخدمة‭ ‬شهوات‭ ‬نفسها،‭ ‬فتسبّبت‭ ‬في‭ ‬هلاك‭ ‬الكثيرين‭. ‬

كانت‭ ‬أشهر‭ ‬زانيات‭ ‬المدينة،‭ ‬وكانت‭ ‬راقصة‭ ‬تستلذّ‭ ‬استئسار‭ ‬الناس‭ ‬حتى‭ ‬كانت‭ ‬تخرج‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬المدينة‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬بغلة،‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬أهل‭ ‬المشرق،‭ ‬والناس‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬يواكبونها‭ ‬كأنها‭ ‬الملكة‭ ‬وينادونها‭: ‬‮«‬يا‭ ‬لؤلؤة‮»‬‭. ‬


pelagia1 كانت‭ ‬تتزيّن‭ ‬بأفخر‭ ‬الأثواب‭ ‬وتتحلّى‭ ‬بالعقود‭ ‬والخواتم،‭ ‬عارية‭ ‬القدمين‭ ‬تتدلّى‭ ‬منهما‭ ‬سلاسل‭ ‬من‭ ‬الذهب،‭ ‬ورائحة‭ ‬الطيب‭ ‬تفوح‭ ‬منها‭ ‬لتسكّر‭ ‬الرجال،‭ ‬لا‭ ‬سيّما‭ ‬الشبان‭ ‬منهم‭. ‬وقد‭ ‬جمعت‭ ‬من‭ ‬امتهان‭ ‬الخطيئة‭ ‬ثروة‭ ‬يعتد‭ ‬بها‭.‬

وحدث‭ ‬مرّةً‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬بيلاجية‭ ‬عابرة‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬كنيسة‭ ‬القدّيس‭ ‬يوليانوس،‭ ‬وكان‭ ‬واقفًا‭ ‬أسقف‭ ‬بعلبك،‭ ‬نونس،‭ ‬يتحدّث‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الأساقفة‭. ‬فما‭ ‬أن‭ ‬وقع‭ ‬نظر‭ ‬الحاضرين‭ ‬عليها‭ ‬حتى‭ ‬استحوا‭ ‬ونظروا‭ ‬أرضًا‭.‬

وحده‭ ‬نونس‭ ‬تطلّع‭ ‬إليها‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬ألأنّ‭ ‬هذا‭ ‬الجمال‭ ‬يخيفكم‭ ‬خفضتم‭ ‬عيونكم؟‮»‬‭ ‬فلم‭ ‬يفتح‭ ‬أحد‭ ‬فاه‭. ‬وطأطأ‭ ‬رأسه‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬جمال‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬يسرّني‭ ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬اختارها‭ ‬لتكون‭ ‬زينة‭ ‬تاجه،‭ ‬أمّا‭ ‬نحن‭ ‬فلعلّ‭ ‬الله‭ ‬يديننا‭! ‬ماذا‭ ‬تظنون،‭ ‬كم‭ ‬بقيت‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬تغتسل‭ ‬وتتعطّر‭ ‬لتفتن‭ ‬المولعين‭ ‬بها،‭ ‬فيما‭ ‬نحن‭ ‬المدعوين‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬ختن‭ ‬نفوسنا‭ ‬الملكيّ‭ ‬العظيم‭ ‬والدخول‭ ‬إلى‭ ‬فرحه،‭ ‬لا‭ ‬نحرك‭ ‬ساكنًا‭ ‬لنجمّل‭ ‬النفوس‭ ‬ونؤهّلها‭ ‬له؟‭!‬‮»‬‭.‬

ثم‭ ‬أنّه‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬يوم‭ ‬الأحد،‭ ‬ذلك‭ ‬الأسبوع،‭ ‬رأى‭ ‬نونس‭ ‬الأسقف‭ ‬حلمًا‭: ‬‮«‬حمامة‭ ‬سوداء‭ ‬تحوم‭ ‬في‭ ‬الكنيسة‭ ‬حول‭ ‬المذبح،‭ ‬فأمسكها‭ ‬وألقى‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬جرن‭ ‬ماء‭ ‬عند‭ ‬مدخل‭ ‬الكنيسة،‭ ‬فخرجت‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬ناصعة‭ ‬البياض‭ ‬متلألئة،‭ ‬بهيّة‭.‬‮»‬

 

توبتها‭:‬
في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬خطر‭ ‬ببال‭ ‬بيلاجية‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬إلى‭ ‬الكنيسة‭. ‬فبعد‭ ‬قراءة‭ ‬الإنجيل،‭ ‬قام‭ ‬نونس‭ ‬الأسقف‭ ‬واعظًا‭ ‬مفسّرًا‭ ‬عن‭ ‬الدينونة‭ ‬العتيدة‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬بني‭ ‬البشر،‭ ‬وما‭ ‬سيكون‭ ‬عليه‭ ‬عذاب‭ ‬الخطأة،‭ ‬لا‭ ‬سيّما‭ ‬الذين‭ ‬يعثرون‭ ‬إحد‭ ‬أخوة‭ ‬المسيح‭ ‬الصغار‭. ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬كلامه‭ ‬قويًّا‭ ‬ونفاذًا‭ ‬لدرجة‭ ‬إنّه‭ ‬اخترق‭ ‬نفسها‭ ‬كالسيف‭ ‬الحاد،‭ ‬فاغرورقت‭ ‬عيناها‭ ‬بالدموع،‭ ‬وأحسّت‭ ‬بفظاعة‭ ‬ما‭ ‬أتته‭ ‬من‭ ‬خطايا،‭ ‬واشتعلت‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬التوّبة‭ ‬والتكّفير‭. ‬لقد‭ ‬كسرت‭ ‬النعمة‭ ‬قسوة‭ ‬قلبها‭ ‬وحدث‭ ‬العجب‭.‬

انصرفت‭ ‬بيلاجية‭ ‬إلى‭ ‬بيتها‭ ‬مضطربة،‭ ‬وبقيت‭ ‬هكذا‭ ‬طوال‭ ‬الليل‭ ‬لا‭ ‬تهدأ‭ ‬إلى‭ ‬حال‭. ‬ثم‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬أرسلت‭ ‬إلى‭ ‬الأسقف‭ ‬رسالة‭ ‬ملؤها‭ ‬التوبة‭ ‬والدموع‭ ‬تتوسّل‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يأذن‭ ‬لها‭ ‬بالمثول‭ ‬لديه،‭ ‬فاستقبلها‭ ‬في‭ ‬حضور‭ ‬الأساقفة‭ ‬الباقين‭. ‬

لما‭ ‬حضرت‭ ‬أبدت‭ ‬من‭ ‬علائم‭ ‬التوبة،‭ ‬دموعًا‭ ‬وسجدات‭ ‬وانكسارًا،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬نونس‭ ‬يسلمها‭ ‬إلى‭ ‬الشمّاسة‭ ‬رومانا‭ ‬التي‭ ‬تعهدتها‭ ‬أمًّا‭ ‬روحيّة‭ ‬لها،‭ ‬ولقّنتها‭ ‬طرائق‭ ‬التوبة‭ ‬وحياة‭ ‬الفضيلة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جرت‭ ‬عمادتها‭. ‬

وبعد‭ ‬عمادتها‭ ‬حملت‭ ‬بيلاجية‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬لديها‭ ‬من‭ ‬جواهر‭ ‬وذهب‭ ‬وثياب‭ ‬فاخرة،‭ ‬وألقت‭ ‬بها‭ ‬عند‭ ‬قدميّ‭ ‬الأسقف‭ ‬قائلةً‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الغنى‭ ‬الذي‭ ‬اقتنيته‭ ‬من‭ ‬الشيطان،‭ ‬فافعل‭ ‬به‭ ‬ما‭ ‬تشاء،‭ ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فلست‭ ‬أرغب‭ ‬بعد‭ ‬إلاّ‭ ‬بالغنى‭ ‬الذي‭ ‬أسبغه‭ ‬علي‭ ‬ربّي‭ ‬يسوع‮»‬‭. ‬

فدعا‭ ‬الأسقف‭ ‬المدبّر‭ ‬ودفع‭ ‬إليه‭ ‬بهذه‭ ‬الثروة‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬خذ‭ ‬هذه‭ ‬ووزّعها‭ ‬على‭ ‬الأرامل‭ ‬والأيتام‭...‬‮»‬‭.‬

‏وكما‭ ‬كانت‭ ‬بيلاجية‭ ‬غيّورة‭ ‬على‭ ‬شهوات‭ ‬نفسها‭ ‬مجدّة‭ ‬في‭ ‬تجميل‭ ‬بدنها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬السوء،‭ ‬أضحت،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬افتقادها،‭ ‬غيّورة‭ ‬على‭ ‬كلمة‭ ‬ربّها‭ ‬مجدّة‭ ‬في‭ ‬التوّبة‭ ‬والدموع‭. ‬

 

تنسّكها‭ ‬وتنكّرها‭ ‬بزي‭ ‬الرجال‭:‬
فبعدما‭ ‬مضى‭ ‬عليها‭ ‬أسبوع‭ ‬كامل،‭ ‬اتّشحت‭ ‬خلاله‭ ‬بالبياض‭ ‬على‭ ‬حسب‭ ‬عادة‭ ‬الكنيسة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمعمّدين‭ ‬حديثًا،‭ ‬قامت‭ ‬فخلعت‭ ‬عنها‭ ‬البياض‭ ‬وتدرّعت‭ ‬بالمسح،‭ ‬وخرجت‭ ‬تطلب‭ ‬أورشليم‭ ‬والأرض‭ ‬المقدّسة‭. ‬

هناك‭ ‬سجدت‭ ‬أمام‭ ‬الصليب‭ ‬عند‭ ‬الجلجلة،‭ ‬ثم‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬مغارة‭ ‬في‭ ‬جبل‭ ‬الزيتون‭ ‬نسكت‭ ‬فيها‭ ‬لابسةً‭ ‬زي‭ ‬الرجال‭ ‬ودعت‭  ‬نفسها‭ ‬بيلاجيوس‭.‬


رقادها‭:‬
كرّت‭ ‬السنون‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حدث‭ ‬مرّةً‭ ‬أن‭ ‬خرج‭ ‬شمّاس‭ ‬من‭ ‬شمامسة‭ ‬بعلبك‭ ‬اسمه‭ ‬يعقوب‭ ‬عرف‭ ‬بيلاجية‭ ‬شخصيًّا‭ ‬وشهد‭ ‬هدايتها،‭ ‬إلى‭ ‬نواحي‭ ‬أورشليم‭.‬‬

وهناك‭ ‬سمع‭ ‬براهب‭ ‬ناسك‭ ‬اسمه‭ ‬بيلاجيوس‭ ‬كان‭ ‬ذكره‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شفّة‭ ‬ولسان،‭ ‬فرغب‭ ‬في‭ ‬التعرّف‭ ‬إليه‭ ‬وأخذ‭ ‬بركته‭. ‬
فجاء‭ ‬إلى‭ ‬جبل‭ ‬الزيتون‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬المغارة،‭ ‬ونقر‭ ‬على‭ ‬الشباك‭ ‬فلم‭ ‬يرد‭ ‬عليه‭ ‬أحد‭ ‬جوابًا‭. ‬
فنادى،‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭. ‬أخيرًا‭ ‬دفع‭ ‬الشماس‭ ‬النافذة‭ ‬قليلاً‭ ‬فرأى‭ ‬جثّةً‭ ‬ممدّدة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬فطرح‭ ‬الصوت،‭ ‬فجاء‭ ‬من‭ ‬جاء‭ ‬وكسر‭ ‬الباب‭.‬

كان‭ ‬الناسك‭ ‬بيلاجيوس‭ ‬قد‭ ‬رقد‭. ‬وعندما‭ ‬أراد‭ ‬الإخوة‭ ‬أن‭ ‬يطيّبوا‭ ‬جسده،‭ ‬اكتشفوا‭ ‬أنّهم‭ ‬أمام‭ ‬امرأة‭ ‬لا‭ ‬أمام‭ ‬رجل‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬بالذّات،‭ ‬تحرّك‭ ‬قلب‭ ‬الشمّاس‭ ‬وعرف‭ ‬أنّها‭ ‬بيلاجية‭. ‬

كانت‭ ‬قد‭ ‬اختفت‭ ‬منذ‭ ‬ثلاث‭ ‬سنين،‭ ‬ولم‭ ‬يدر‭ ‬بأمرها‭ ‬أحد‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭. ‬

البار‭ ‬يعقوب‭ ‬الشمّاس‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬خبرها‭ ‬المذهل،‭ ‬وأكمل‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬الفضائل‭ ‬ورقد‭ ‬بسلام‭.‬

بيلاجية‭ ‬التائبة‭ ‬تسمّى‭ ‬أحيانًا‭ ‬بالمجدلية‭ ‬الثالثة،‭ ‬بعد‭ ‬مريم‭ ‬المجدلية‭ ‬ومريم‭ ‬المصرية‭. ‬

لقد‭ ‬صدق‭ ‬فيها‭ ‬قول‭ ‬نونس‭ ‬الأسقف‭ ‬‮«‬جمال‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬يسرّ‭ ‬ني‭ ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬اختارها‭ ‬لتكون‭ ‬زينة‭ ‬تاجه‭....‬‮»‬‭.‬