وإرادة الحياة التي يكتنز بها القلب المشرقي هي…

2014-08-29

p1 كلمة البطريرك يوحنا العاشر  
في وضع حجر الأساس لقسم العيادات في مستشفى الحصن، 29 آب 2014  

إخوتي وأحبتي،  

نجتمع اليوم في هذا الصرح الطبي، مستشفى الحصن البطريركي، لنضع حجر أساس لتطوير هذا المستشفى. وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدل على إرادة الحياة لدينا ولدى أهل هذا الوادي المعطاء.

وإرادة الحياة التي يكتنز بها القلب المشرقي هي الكفيلة بغرس النور فينا وبثّه للدنيا كلّها: " لنقول للعالم أننا في هذا المشرق وفي هذه الأرض منغرسون لأننا أبناء النور.
والنور لا يعرف الخنوع لدياميس الظلمة.

نضع حجر أساس لنقول بأن هذا الوادي، ومثله كلّ بقاع سوريا، ينبض بقوة الحياة وينبض الحياة في جواره رغم كلّ المآسي.

مشفى الحصن، أو مستشفى الحصن هو اسم واحد وتعبير واحد عن محبّةٍ تتجسّد أفعالاً.
هو بقعة ضوء لا تدّعي الكمال، إذ هو لله وحده.
أوجدته الجامعة الحصنية أو الرابطة الحصنية في دنيا الاغتراب. وتعهّدته الكنيسة. وهي في ذلك، تقول للإنسان أنها المجس الأول له روحياً وجسدياً.

إن العلوم، وعلى رأسها العلومُ الطبيّة ، والهادفةُ إلى المحافظة على أفضلِ قدرةٍ للجسد للاستمرار في الحياة، لا بد لها من وِصالٍ مع النفس من خلال الحقيقة الإلهية من جهة، وعالمِ الأرض من جهة أخرى، كونَ الخليقةِ الإنسانيةِ، جسداً ونفساً وروحاً، أعظمَ تركيبٍ منسجم لخلايا تمايزت في وظائفها، وتكاملت في إنتاج انسجامِ الحركة والتفكير والحس. 

هذا هو الكائنَ الإنسان الذي هو على صورة الخالق في المحبّة، ومثالُهُ في الخُلُق وصونِ العالم المادي، تلك الوديعةِ التي سلّطه الله عليها، ليحفظَها ويطوّرَ الخير المغروسَ فيها، فيستنبطُ الكمالَ الأسمى، والجمالَ الفيّاض، والأخلاقَ الفضلى، والفكرَ الخيّر الصالح الخادم، الذي هو بالبعدِ الأقصى الغايةُ من النورانية والنقاوة والقدسية.

قد يتساءل البعض ما شأن الكنيسة والمستشفيات. إن الكنيسة تعمل بالروح وتعظ بالفضائل والقيم. وتعمل من أجل الشفاء الروحي أكثر منه الجسدي والزمني.

لكننا نقول، إن الكنيسة عموماً، والكنيسة الأنطاكيّة خصوصاً مدعوة دوماً وأبداً لأن تكون للروح راحةً وللجسد.

الكنيسة هي كنيسة الرّب المتجسّد الذي لم يكتف بالوصايا المنحوتة على الأحجار. بل انحدر هو نفسه لينحت في قلب كلّ منا محبّته لنا وليدمغ بحقائق التاريخ أنه حلّ في هذه الأرض غير بعيد عن موقعنا الآن، وأنه اقترب من مرضانا وداوى أوجاعنا وتعطّف على آلامنا.

 كنيسة أنطاكية هي كنيسة النفوس والأجساد لأن بارئها وربّها هو المتحنن الذي انحدر من العلو وشفى أوجاع المقعدين وفتح أعين العميان واكتسح القلوب بمحبته.
هو لم يوفر هذه المحبّة روحياً ولم يحتفظ بها بل أدفقها شفاءات وآيات.

image-Recovered

هذا المستشفى هو إطلالة محبّة رغم كل الضعفات. هو وهج غيرة ربّانية انبثقت من عطاءات الأبناء في دنيا الاغتراب، لتقول: إن هذا الوادي وهذا الوطن لا يفارق قلوب أبنائه ولو مادت الأرض بهم. ومن هنا، من قلب هذا الوادي، نبعث بالبركة الرسولية لأبنائه في دنيا الانتشار، الذين هم في قلبنا وفي صلاتنا دوماً.

واليوم نجتمع لنكمل مسيرة الأسلاف. ونضع حجر أساس لأجنحة جديدة. ومن هنا نتوجّه بالشكر العميق للسيّد جورج مخول، ابن هذا الوادي. الذي ترعرع، وهنا تسمح لي محبته أن أقول؛ ترعرع في ظل زيتون الزويتينة. وظل زيت زيتونها في قلبه تعبيراً عن أصالة ومحبةٍ انجلت دوماً وتنجلي اليوم بأبهى صورها متمّة قول الرّب: "العطاء مغبوط أكثر من الأخذ".
بوركت يمينكم يا جورج وبوركت تلك العائلة التي تعرّفت إليها وسررت بأن رأيت فيها تلك الأصالة الإيمانية الممتزجة بحب الناس والوطن.

نضع اليوم حجر الأساس في هذا المكان ونتذكّر كلمات السلف الراحل إغناطيوس الرابع هزيم، وبذكرنا لكلماته نبعث بالبركة الرسولية لأهلنا في محردة، محردة التي تدفع اليوم ضريبة قساوة الأيام التي دفعها الوادي وكلّ أرجاء سوريا وسط تفرج العالم، محردة الرجولة التي، بعون الله تعالى وبهمة شبابنا، ستبقى لا تحديّاً لأحد بل منفحاً لياسمين سلام سوريا، نتذكر قول ابن محردة إغناطيوس (هزيم) يوم وضع أساس جامعة البلمند في زمن اشتدت فيه الأهوال: "إذا كان قدر البعض أن يدمّر، فإن قدرنا أن نبني ونبقى".

وسوريا ستبنى بسواعد الخيرين. وبلقياهم على محبّة الوطن.
سوريا أمانة الله في عنق أبنائها. وهي لم تعرف يوماً تكفيراً أو إرهاباً أو خطفاً للكهنة وقتلاً للشيوخ واحتجازاً للمطارنة.
تسمو سوريا بعطاء أبنائها وبمنطق المصالحة وبلقيا أبنائها.

آن للعالم أن يستفيق من كبوته وينظر بعين الحق لما يجري.
آن للحكومات وللمنابر الدوليّة أن تتعامل مع الأبرياء الذين سقطوا بمنطق الرحمة لا بمنطق المصالح.

نقول كلّ هذا ولنا ثقة بالله ورجاء يقين بأن سوريا ستنهض كالفينيق رغم كلّ الأهوال. وفجر سوريا قادم بتماسك شعبها وبصمود قيادتها وجيشها وشعبها.

أتوجه بالشكر لسيادة الأخ نقولا بعلبكي لما أسداه من أتعاب في هذا الصرح. وفي الختام أتوجه بالشكر لكم جميعاً متمنيّاً التوفيق والنجاح للكادر الإداري والطبي. وأشكر وسائل الإعلام وأخص بالذكر التلفزيون العربي السوري ونورسات - تيلي لومير لنقلهم هذا الحدث.

كن يا رّب معنا في خدمة إنسانك. وعزّ بحضورك هذا المستشفى.
فلتعملْ فيه يمينُك المباركة بيمين أطبّائه، وليكن عزاؤك في ابتسامة ممرّضيه.

عزِّ يا رّب قلوب مرتاديه وامسح نفوسهم وأجسادهم بقوة أشفِيَتِك. فإنك المبارك أبد الدهور آمين.