القدّيس سيصوي الكبير

2015-07-06

اسم القدّيس سيصوي أو شيشوي ويعني "ابن العالي".

١- مولده:
القديس سيصوي مِن آباء البريّة في مصر.
هو مِن مواليد مصر مِن القرن الرابع ميلادي (٣٤٠م). ترك العالم وهو في العشرين مِن عمره ولجأ إلى بريّة وادي النطرون.
يدعى هذا الوادي بالغة القبطية "شيهيت" أو "شيهات" أو "شييت" ومعناها "ميزان القلوب". 106562114_3071383056283442_6650648471739109965_n

٢- تنسكّه:
تتلمذ سيصوي في البريّة على يد القدّيس مكاريوس. وإذ كان يشتهي حياة أكثر هدوءًا، عبر في العام ٣٥٦م نهر النيل وجاء إلى جبل القدّيس أنطونيوس الكبير فكانت له سيرة هذا القدّيس وفضائله معينًا ومثبّتًا. 
بقي متوّحدًا إلى العام ٤٢٦م. عاد في سنيه الأخيرة إلى برّية شيهيت حيث رقد هناك عن عمر يناهز المئة والعشر سنوات. 
قال عنه الأنبا بيمين إنّه فاق كل الحدود وتجاوز كل سير الآباء القدّيسين. 
جعل القدّيس سيصوي معلّمه القدّيس أنطونيوس أمام عينيه في كل حين حتى حسب أن معلّمه كان يراه ويسمع توجيهاته لتلاميذه، وكان يدرّب نفسه على الاقتداء به. 
كان مجاهدًا صارمًا ورجل صلاة وصمت بكل ما للكلمة مِن معنى، عندها سمح الربّ أن يكون أبًا لرهبان كثيرين، فخرج يعلّمهم متخلّيًّا عن صمته مجبرًا باسم المحبّة والخدمة، ولكن بقي قلبه يلهج دائمًا بالله بصمت وسكون وسلام.
 
٣- تواضعه وانسحاقه:
لمع في التواضع والانسحاق، فكان خير منارة لكثيرين بالتوبة والدموع.  
ورد أنّه بعد نياحة القدّيس أنطونيوس جاء إلى القدّيس سيصوي أخوه زائراً في مغارة القدّيس أنطونيوس، فقال له: "كان يسكن في هذه المغارة أسد والآن يسكن ثعلب". 
  
٤- مِن حواراته مع تلاميذه: 
- سأله، مرّة، أحد الرهبان: "ألم تصل، يا أبانا، إلى درجة الأنبا أنطونيوس؟ 
"فأجاب: "لو كانت لي واحدة فقط مِن فضائل هذا الراهب، لتحوّلت إلى شعلة حبّ إلهي".

- قال له أحد الرهبان مرّة:
"يا أبي، إني أضع نفسي دائماً في حضرة الله".
فأجابه القدّيس سيصوي: "خير لك يا بني أن تضع نفسك تحت كل المخلوقات حتى تكون مطمئناً في تواضعك".

٥- تائب البريّة ورقاده:
 دُعي بتائب البرّية بسبب ما حصل له وقت نياحته بحضور الأنبا آمون.
قيل سمعوه يكلّم أشخاصًا غير منظورين، فسأله الحاضرون: "ماذا ترى يا أبانا؟"
فأجاب: 
"أرى جماعة قادمة لتأخذني، وأنا أتوسّل إليهم أن يمهلوني قليلًا حتى أتوب".
فعلّق أحد الشيوخ: "ولكن هل لديك قوّة بعد لكي تتوب؟"
فأجاب: "وإن لم تكن لدي القوّة على ذلك، فإني أتنهّد وأبكي على نفسي!"
ولمّا قال هذا أشرق وجهه كالشمس ففزع الذين حوله وسمعوه يقول: "الربّ يقول ائتوني بتائب البرّية". 
ولمّا قال هذا أسلم الروح فامتلأت القلاّية رائحة طيب.
 
٦- مِن جهاده:
اعتاد أن يعود إلى قلاّيته فور انتهاء القدّاس الإلهيّ، وكان يردد دائمًا:"جيّد للراهب أن يبقى في قلاّيته".
كان يخشى في حضور الآخرين أن يرفع يديه وهو يصلّي إلاّ خطفاً لئلا يُخطّف عقلُه إلى السماء في وجود أحد.

مرّة فيما كان جالسًا في قلاّيته قرع تلميذه الباب فأجابه الشيخ: "انصرف يا أبرام ولا تعد حتى أستدعيك لأني مشغول الآن ولست وحدي!"
كثيراً ما كان يحدث له أن ينسى أنّه لم يأكل، وكان تلميذه يذكّره بذلك بإلحاح.  
سأله أحدهم: "ترى هل كان الشيطان يزعج الرهبان قديمًا أكثر مما يزعجهم اليوم؟" فأجاب: "بل اليوم أكثر لأن زمانه قد دنا لذلك هو قلق".
هذا وقاوم القدّيس سيصوي الآريوسيّين المقبلين إليه.

٧- مِن عجائبه:
أتى أحد الأراخنة إليه مع ابنه. ففي الطريق إلى المغارة سقط الغلام صريعًا فحمله الأرخن إلى حيث كان القدّيس، وكان مستغرقًا في معايناته، فسجد للرّب أمامه ووضع ابنه الميت بجواره كأنه ساجد وتركه. بقي الابن على هذه الحال والقدّيس ينتظر قيامه.
فلمّا تأخّر جداً ربت على رأسه قائلاً: "ليباركك الربّ يا بني. انهض سالمًا. فنهض الصبي معافى ومجّد الله. فألّح عليه القديس سيصوي ألاّ يخبر أحدًا بذلك قبل يوم انتقاله.

٨- كيف أنجو مِن جهنّم؟
جاءه ثلاثة متوحّدين مرّة فسأله الأول:
"ماذا أفعل يا أبي لأنجو مِن نار جهنم؟" وسأله الثاني: "كيف أهرب مِن صرير الأسنان والدود الذي لا يموت؟" وسأله الثالث: "ماذا سيكون حالي، فإنّي كلّما أفكّر في الظلمة الخارجيّة أكاد أموت رعباً؟"
فأجابهم: "أعترف لكم بأن هذه الأمور لا أفكر فيها أبدًا. وأنا إذ أعلم أن الله رحيم، أثق بأنّه سيرحمني".

فلما حزنوا لجوابه وأراد أن يبعث فيهم روح الرجاء قال لهم: "أغبطّكم وأطوّبكم يا إخوتي، واشعر بالغيرة مِن فضيلتكم، لأنّه ما دامت مثل هده الذكريات بشأن عذاب جهنّم تساوركم، فمن المستحيل أن تستعبدكم الخطيئة.
أمّا أنا فجامد القلب ولا أفكّر بأن ثمّة عقابًا ينتظر الخاطئ الآثم. لهذا لا أكفّ عن ارتكاب الخطايا.

٩- ثمن الحريّة:
جاؤوا به مرّة من البرّية إلى شيهيت لضرورة الشيخوخة فلاحظه الأنبا آمون متأئّرًا جدًا فسأله: "لماذا أنت حزين هكذا يا أبانا؟ ماذا كان بإمكانك أن تفعل في البريّة وحدك وأنت مسنّ؟"
فتطّلع إليه معاتبًا: "ما هذا الذي تقوله يا آمون؟ أليس مجرّد الإحساس بالحريّة في الصحراء أفضل مِن كل شيء؟".

١٠- مشاركته ضيوفه:
ورد إنه كان يشارك ضيوفه متى أتوه في طعامهم في وقت غير موافق، ثمّ يحرم نفسه مِن الطعام أيّامًا للتعويض عمّا فعله.

١١- صراخه في رقاده:
لمّا دنت ساعة فراقه سُمع يصرخ:
"القدّيس أنطونيوس والأنبياء والملائكة أتوا لأخذ روحي". ثمّ أضاء وجهه وسكت لحظة، ثمّ صرخ مِن جديد: "والآن الربّ يأتي إليّ". هكذا أسلم روحه حوالي السنة ٤٢٩م بعدما كان قد اعتزل في جبل الأنبا أنطونيوس اثنتين وستين سنة.

١٢- من أقواله:
- جوابا" على سؤال وُجِّه إليه: "هل الهروب نافع للراهب؟" فقال جاعلًا إصبعه على فمه: "إن حفظت نفسك مِن هذا يا ابني، فهذا هو الهروب".
- سألوه: "كم مِن الزمن يحتاج الإنسان لقطع الأهواء؟" فأجاب: "حالما تتحرّك فيك الشهوة اقطعها".
- وسأله أخ: "كنت جالسًا في البريّة وقَدِمَ بربري وأراد قتلي ولكنني قويت عليه، فهل أقتله؟"، أجاب: "كلا، بل سلّم أمرك لله لأنّ كل محنة تأتي على الإنسان ليس له إلاّ أن يقول: إنّها من أجل خطاياي!".

١٣- القدّيس سيصوي والإسكندر الكبير:
هناك إيقونة مشهورة جدًا لهذا القدّيس ينظر الهيكل العظمي للإسكندر الكبير. إذ نرى سيصوي ساجدًا ورافعًا يديه إلى العلى متعجّبًا.

sisoes
النص المكتوب في الإيقونة يخبر ما يحدث: "سيصوي، الناسك العظيم، أمام قبر الإسكندر، ملك اليونان، الذي كان مغمورًا بالمجد في وقت ما. منذهلاً، يندب تقلّبات الزمن وزوال المجد، ويخطب بدموع هكذا: "إن مجرّد رؤيتك أيّها القبر، ترعبني وتدفع قلبي لذرف الدموع، فيما أتأمّل في الدَين الذي علينا نحن جميع البشر. كيف لي أن أحتمل ذلك؟ أواه، أيّها الموت! مَن يستطيع أن ينجو منك؟".
انتشرت هذه الإيقونة بقوّة في الأديار اليونانيّة والكنائس ابتداءً مِن القرن الخامس عشر، مثل دير الثالوث القدوس، ودير برلعام في متيورا، ودير البار لوقا في ستييري.
الملفت في النظر، أنّها وضعت في الكنائس بالقرب مِن الباب الذي يخرج منه المؤمنون، حيث تظهر أيضًا إيقونة رقاد السّيدة العذراء، وذلك لكي ينظرها الخارجون ويرفضوا المجد الباطل.

ويطرح السؤال هنا: هل هذه الإيقونة تترجم حدثًا حقيقيًّا حدث، أم هي مِن نتاج الكنيسة لهدف ما؟ في كلي الأمر يبقى المغزى منها مهمًا جدًا، إذ لا مجد في هذا الكون سوى مجد ملك المجد الرّبّ يسوع المسيح.
وهنا لا بد مِن ذكر التالي:

أوّلًا، يقال إنّه حصل تهديم قبر الإسكندر في زمن القدّيس سيصوي. نتج عن هذا الأمر ضجّة كبيرة عند الشعوب في المنطقة. فلا عجب أن يكون قدّيسنا علّق على هذا الأمر بأن لا مجد باق إلّا مجد الرّبّ والباقي كلّه فانٍ.

ثانيًا، بدأت هذه الأيقونة بالظهور بعد سقوط القسطنطينيّة عام ١٤٥٣م.

ثالثًا، كان الإسكندر الكبير محط إعجاب كبير لكثير مِن الأباطرة في القسطنطينيّة، إن مِن ناحية الشخصيّة القياديّة أو التنظيم أو السلطة أو نشر الثقافة الهيلينيّة. لا بل اعتبر البعض أن حكمهم هو استمرار للإسكندر.

وقد زار قبره في الإسكندريّة عدّة أباطرة رومانيين على التوالي بدءًا من قيصر. ويحكى أنّه عندما زار القدّيس يوحنا الذهبي الفم الإسكندرية طلب أن يزور قبره، ولكنّ لم يكن أحد يعرف مكان القبر.

كما يذكر المؤرّخ الروماني لوكيوس ديون كاسيوس Lucius Cassius Dio (١٥٥-٢٣٥م) أنّه بعد زيارة الإمبراطور الكبير أوغسطس قيصر جثمان الإسكندر في الإسكندريّة، سؤل إذا كان يريد أن يزور قبور البطالمة حكّام مصر أيضًا، فرفض قائلاً: "جئت أزور ملكًا وليس رجالًا أموات".

رابعًا، المرحلة ما بعد سقوط القسطنطينيّة ليس كما قبلها. المدينة الكبرى سقطت، وهذا يعني الكثير. حتّى في عز مجدها وقف آباء كثيرون يقولون إن مجدنا الحقيقي هو مِن فوق مهما عظمت أي مدينة. مِن أهم هذه الآباء القدّيس سمعان اللاهوتي الحديث (٩٤٩-١٠٢٢م) الذي كان دائمًا يصوّب البوصلة إلى الاتّجاه الحقيقي، علمًا أن القدّيس سمعان عايش القسطنطينيّة في ذروة مجدها، ولكن كان خوفه دائمًا أن ينسى المؤمن المجد الحقيقي الذي لا يفنى ولا يبطل، ولا سبيل للحصول على مجد الربّ إلّا عن طريق الزهد والترّفع عن كل ما هو ترابي.

طروبارية القدّيس سيسوي
ظهرت في البرّية مستوطناً، وبالجسم ملاكاً، وللعجائب صانعاً، وبالأصوام والأسهار والصلوات تقبّلت المواهب السماويّة، فأنت تشفي السقماءَ ونفوس المبادرين إليك بإيمان، يا أبانا المتوشّح بالله سيسوي. فالمجد لمن وهبك القوّة، ألمجد للذي توّجك، ألمجد للفاعل بك الأشفية للجميع