القدّيس كيرلّس رئيس أساقفة أورشليم (386م‎(‎

2015-03-18

kirillos-500لا نعرف بالتحديد لا أين ولد ولا متى كانت ولادته. يُظن أنه أبصر النور في أورشليم في حدود العام 315م. سيم كاهناً بيد القديس مكاريوس، أسقف أروشليم، الذي أوكل إليه مهمة إعداد الموعوظين للمعمودية. كان ذلك، فيما يبدو، حوالي العام 348م. وإثر وفاة مكاريوس نادى به الشعب خلفاً له وسامه أكاكيوس، أسقف قيصرية التي كانت أورشليم إحدى توابعها (351م).

أكاكيوس هذا كان آريوسياً. لهذا السبب التبس الأمر ما عساها تكون الأسباب التي حدت بأكاكيوس إلى القبول بكيرللس. ثمة من يظن "أنه لم يحصل على كرسيه إلا بعدما وعد بالإنضمام إلى الآريوسيين". هذا ما يقول به كل من المؤرخين الكنسيين سقراط وسوزومينوس مشيرين إلى "أن ظروف رقيّه إلى السدة الأسقفية يكتنفها بعض الغموض". آخرون قالوا أن كيرللس كان رجل سلام، وديعاً متواضعاً، منشغلاً عن الجدل العقائدي ببنيان المؤمنين. لهذا السبب اجتنب استعمال اللفظة الجدلية في ذلك الزمان "هوموأوسيوس" التي تشير إلى كون الابن مساوياُ للآب في الجوهر. هذا التحفظ المقصود لأسباب رعائية حمل الآريوسيين على الظن أنه في صفهم فلم يقفوا في وجهه حين نودي به أسقفاً لأورشليم. أنى يكن الأمر فإن ثيودوريتوس في تاريخه الكنسي يذكر الرسالة التي بعث بها مجمع القسطنطينية الأول (381م) إلى البابا داماس وأساقفة الغرب والتي جاء فيها: "نحن نقر ونعترف منذ زمن بعيد أن كيرللس الحبر الجليل الموقر هو الذي انتخب قديماً وفق قوانين الكنيسة أسقفاً على الكنيسة أم كل الكنائس، كنيسة أورشليم، من بين أساقفة أقليمه، وأنه هو الذي جاهد الجهاد الحسن ضد الآريوسيين في أوقات وأماكن مختلفة". أرثوذكسية كيرللس، في كل حال، ما لبثت أن بانت للملأ واضحة جليّة. هذا دفع أكاكيوس إلى اضطهاده والتضييق عليه والسعي إلى نفيه. روج أكاكيوس في شأنه قصة مفادها أن امرأة في أورشليم كانت ترقص في الشوارع وعليها أردية كنسية. فلما سؤلت من أين أتت بها أجابت أنها اشترتها من أحد التجار وأدلت باسمه. فلما توجه المستجوبون إلى التاجر وسألوه من أين جاء بالأردية ادّعى أن الأسقف سلمه إياها برسم البيع. لا نعرف ما إذا كان لهذه الرواية أي أساس من الصحة لكن المؤكد أن مجاعة عنيفة حلت بأورشليم فلجأ الفقراء إلى كيرللس يسألونه العون فأدى ما كان في طاقة يده. فلما نفذ ما كان عنده ولم تنحل المجاعة أخذ يبيع أواني كنسية ويشتري بثمنها قمحاً لإطعام الجياع. ويبدو أن أكاكيوس استغل الحادثة المزعومة ونقلها إلى الامبراطور. وقد نجح في إيهامه بأن كيرللس فرّط بأردية سبق للقديس الامبراطور قسطنطين الكبير أن قدمها لمكاريوس الأورشليمي وأن الهدية الملكية انتهت إلى امرأة ظهرت في أماكن للتسلية وهي ترقص متشحة بها. ردّ فعل الامبراطور ضد كيرللس كان السخط الشديد حتى إنه أمر بسجنه. هذا ويظهر أن الآريوسيين نجحوا ثلاثاً في إبعاد كيرللس عن كرسيه بدءاً من العام 357م. آخر إبعاد له كان في زمن الامبراطور فالنس، المناصر للآريوسية، وقد طال أحد عشر عاماً، من سنة 367 إلى سنة 378م، بُعيد وفاة فالنس. فلما استلم ثيودوسيوس الكبير دفة الحكم نعم كيرللس بالسلام والاستقرار في شغل أسقفيته ورعاية شعبه. وأغلب الظن أنه رقد بسلام في الرب في 31 آذار من السنة 386م. كلا الكنيستين في الشرق والغرب حفظ ذكراه في هذا اليوم عينه. أهم ما وصلنا من مؤلفات كيرللس عظاته التي ألقاها على طالبي المعمودية وعلى المعمدين الجدد أول حياته الرعائية سنة 348م. هذه ألقيت في كنيسة القيامة في القدس وهي من أثمن ما وصلنا من تلك الحقبة من تاريخ الكنيسة. نصها موفور في اللغة العربية ضمن سلسة "أقدم النصوص المسيحية". وهناك أيضاً رسالة وجهها إلى الامبراطور قسطنديوس وضمنّها سرداً لظهور نوراني للصليب الأقدس جرت معاينته من الكثيرين في 20 آيار 351م. نذكر بعض ما ورد منها:

"في هذه الأيام بالذات لعيد العنصرة المجيدة، في الثاني والعشرين من آيار، حوالي الساعة الثالثة (التاسعة صباحاً)، ظهر في كبد السماء صليب ضخم من نور فوق الجلجلة المقدسة وامتد حتى إلى جبل الزيتون. لا واحد ولا إثنان رأياه بل كل سكان المدينة لأنه استبان جلياً. كذلك لم يختف بسرعة كما يمكن أن يخطر بالبال، بل كان مرئياً فوق الأرض عدة ساعات وتلألأ نوره أبهى ضياء من أشعة الشمس. ولم لم يكن الأمر كذلك لكان نور الشمس قوي عليه وحجبه. وقد اندفع السكان بأجمعهم إلى ناحية الكنيسة الشهيدية هناك والخوف قابض عليهم مختلطاً بالفرح للرؤية السماوية. الكل تدفقوا إلىالمكان، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء من كل الأعمار، لا مسيحيين فقط بل وثنيين أيضاً وغرباء عن أورشليم. كلهم كما بفم واحد رفعوا نشيد التقريظ للرب يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، صانع العجائب...."