القديس البار أفكسنديوس السوري

2015-02-14

(القرن5م):

 كتب سيرة القديس البار أفكسنديوس أحد المتوحدين من رهبان ديره. هذا في أغلب الظن. وهو يدعوه "أبي". سوزومينوس والعديد من المؤرخين كتبوا عنه بإكبار. أصل القديس أفكسنديوس فارسي. ولد في مكان ما من البلاد السورية لا نعرفه. ويبدو أن أباه عبدا هَجَر فارس إثر هجمة الملك شابرو على المسيحيين وكان برفقة أحد أبناء عمه أو ربما أحد أشقائه.

هذا الأخير استقر في القسطنطينية، ضابطا في الحرس الملكي. أما بعدها فاستقر في سورية وتزوج وأنجب أفكسنديوس. نشأ أفكسنديوس على محبة الفضيلة والعلوم. فلما بلغ الأشدّ خرج إلى القسطنطينية في زمن الأمبراطور ثيودوسيوس الصغير (401-450م) آملا في لقاء عمه هناك. لكن عمه (أو ابن عم أبيه) كان قد مات. وإذ رغب في الإنضمام إلى العسكرية التحق بفرقة الحرس الملكية الرابعة لما تمتّع به من مزايا. وقد لاحظه الأمبراطور وأحبّه. هذا ما شهد به سوزومينوس المؤرخ. وقد ورد انه كان متين البنية، قوي الشكيمة، صلب التركيب، تقيا، مقبلا على زملائه، غيورا لهم، حميد الأخلاق، فهيما، عليما بما هو عالمي وكنسي معا، مهذبا، وديعا. سيرة أفكسنديوس، حتى في العالم، كانت، وفق الشهادات، بلا شائبة حتى منّ الله عليه بموهبة صنع العجائب. وقد حرص على الالتصاق بذوي التقى. من الذين تردّد عليهم بتواتر متوحّد، وقيل عمودي، اسمه يوحنا في ضاحية من ضواحي القسطنطينية.

ومن رفاقه مرقيانوس وأنثيموس. هذا الأخير كان رجلا عجيبا وكان ينظم الأناشيد الكنسية ويُمضي وأفكسنديوس الأيام في الصوم  والصلاة والسهر. وإذ زاد التفات الناس إلى أفكسنديوس لفرادته وأزعجته مدائحهم قرّر الخروج من العالم. أعتزل قديسنا في جبل أوكسيا في بيثنيا، على بعد حوالي خمسة عشر كيلومترا عن خلقيدونية. لبس شعر الماعز والتحف السماء وكان يعتلي، لصلاته، صخرة ويرفع ذراعيه وعينيه إلى فوق بحرية ورحابة صدر. وما إن مضى شهر على خروجه حتى التقاه بعض الرعيان. كانوا أحداثا وقد أضاعوا قطعانهم. وإذ عاينوه أرعبتهم هيأته لأنهم ظنوه شبحا أو شبه ضارية وفرّوا منه. لكنه ناداهم وهدّأ من روعهم وأشار إلى المكان الذي يجدون فيه قطعانهم. فلما نزلوا من هناك أطلعوا ذويهم على ما كان من أمر أفكسنديوس معهم فخرجوا إليه تبركا. ولما التقوه تأثروا وسألوه أن يصعد إلى قمة الجبل ويصلي لهم. وقد بنوا له هناك قلاية صغيرة لها شباك صغير يطل منه على نور الشمس وعلى قاصديه. ذاع صيت القديس بقرب خلقيدونية وقصده الناس من كل صوب يرومون بركته والتأدّب بكلمة الله من فمه، فما كان بنعم الله عليهم بخيلا. وعجائب جمّة جرت على يديه هناك.

b من ذلك أن سيّدة جليلة القدر من نيقوميذية أتته قائلة:" ارأف بي يا خادم العليّ؟". فأجابها:"ما أنا سوى خاطىء، ولكن إن كنتِ بيسوع المسيح مؤمنة وقد شفى المولود من بطن امه أعمى، فله أيضا ان يرد لك البصر. فلنصلّ معا عساه يستجيب لنا". فشرع الحاضرون، وكانوا وفرة، يُصلون. ثم دعا العمياء إلى شبّاكه ولمس عينيها قائلا لها:"ليشفِكِ النور الحقيقي، يسوع المسيح!". فانفتحت عيناها وأبصرت للحال بجلاء. كذلك جاء إلى أفكسنديوس العديد من الذين فيهم أرواح خبيثة فأبرأهم، باسم يسوع، أجمعين. وإن أبرصين قدما إليه فقال لهما: لقد كان لكما البرص عقابا على ما اقترفته أيديكما. فتوبا عمّا فعلتما ولا تُغضبا الله بعد اليوم لئلا يصيبكما أشر. ولما قال هذا طلب من الحاضرين أن يصلوا معه لأجلهما. فبعدما صلّوا دهنهما بزيت أخذه من القنديل المشتعل أمام رفات القديسين لديه فطهرا. أحد المستهترين، بعدما سمع عن قديس الله، اخذ يشيع أن أفكسنديوس محتال دجّال، يوهم الناس أن بهم شياطين ثم يدّعي إخراجها منهم خداعا لهم.

وإذ حدث أن اصطحبه أحد رفاقه إلى القديس ممن كانوا متعلقين به، أعرض رجل الله عن الشكّاك الهتّاك لأنه عرف بروحه أن قلبه غير نقي. وإذ همّ الإثنان بالعودة وصل أحد خدّام الرجل المستهتر وكان ممزق الثوب وأخبره أن مصيبة حلت ببيته. فاستعلمه واجفا عما حدث فقال ابنتك استبد بها روح خبيث وهو يعذّبها جدا. فنزل الخبر عليه كالصاعقة وأدرك للحال ضلال نفسه وبات يضرب أخماسا بأسداس. فأخذه صاحبه إلى قديس الله الذي وبّخه على استخفافه بعمل الله وافتراءه على الأقداس. وبعدما وعظه أوعز إليه بالتردّد على الكنيسة، هو وابنته، بتواتر، ثم صلى فشفيت الابنة من تلك الساعة. في تلك الأيام التأم المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونية(451م) وأدان أفتيشيس الذي قيل أنه نادى بطبيعة واحدة للمسيح المتجسّد بعد الطبيعتين قبل التجسّد. واعتُبر موقفه خلطا بالطبيعتين في المسيح. كما ذُكر انه أنكر أن تكون انسانية المسيح من نفس طبيعتنا البشرية. وإذ رغب الأمبراطور مرقيانوس والآباء في حشد الدعم لقرارات المجمع اهتموا بنيل بركة آباء البرّية في ذلك الزمان. ولما كان أفكسنديوس أحد الشيوخ الروحيين البارزين في زمانه فقد وصلت إليه بعثة من رهبان وإكليريكيين لاستطلاع قوله وأخذ بركته في الشأن العقائدي المطروح.

لكن رجل الله صدّ البعثة بحجّة انه ليس للرهبان أن يعلّموا بل للأساقفة. موضوع أفتيشيس وهرطقته لم يكن عارفا به أصلا. فعاد الملك وأرسل سفارة مزودة بجند وتعليمات أن يأتوا به قسرا إذا امتنع. فلما قدموا إليه أبى ان يفتح لهم فحاولوا اقتحام المكان ولكن عبثا لان الباب العادي جدا بدا أحصن من أن يتمكنوا من معالجته. فلما رأى القديس شدّة ضيق المقبلين عليه رأف بهم وتلفظ ثلاثا بالبركة الإلهية قائلا: تبارك الله! فانفتح الباب دونما عناء. وإذ بان لهم  القديس بهيئته وهيبته اختشوا. رأوا جسده مجرّحا والقيح والصديد يخرج من الجراح. كان أوهن من أن يمتطي صهوة جواد فجعلوه على عربة تجرّها ثيران. لكن أبت أن تتحرك إلا بعدما رسم عليها إشارة الصليب. في الطريق أخرج أفكسنديوس الشياطين من العديدين الذين التقوه. وإذ تداعى الزارعون يبكون لفراقه طرد الأرواح الخبيثة من بهائمهم. كذلك تبعه الفقراء الذين كان يعيلهم من أموال خيّرين وأكّد لهم انه باق معهم بالروح ولو فارقهم بالجسد. عومل القديس في رحلته معاملة السجين، لكن شيئا لم يمنعه من شفاء المرضى وطرد الشياطين من الذين دنوا منه. أخيرا دخل على مرقيانس قيصر في قصر أبدومون بقرب القسطنطينية فتأثر الملك لرؤيته وعلائم التقشّف والنسك عليه. فلما حادثه وبان له أنه ليس على ما جرى مطلعا بعث به إلى الكنيسة العظمى لمواجهة البطريرك القسطنطيني الذي تلا عليه ما أقرّه الآباء فاستصوبه وبارك لأنه في خط المجمع النيقاوي ولا بدعة فيه. وقد ورد انه صار كاهنا إثر ذلك ولم يعد إلى جبل أوكسيا بل تحوّل إلى جبل سيوبي القريب من خلقيدونية.

وهذا هو الجبل الذي عرف فيما بعد باسم القديس وشعّت منه فضائله وعجائبه. مما كان أفكسنديوس يدعو إليه، في تلك الحقبة، الاقلاع عن العمل يومين في الأسبوع، الجمعة والأحد. الجمعة إكراما لآلام الرب يسوع، وهذا تجدر تمضيته في الصوم والصلاة. والأحد إكراما لقيامة الرب يسوع، وهذا يوافق قضاؤه في الفرح المقدس والاشتراك في القدسات. وكما هاجمت الأرواح الخبيثة قديسنا في منسكه الأول هاجمته في منسكه الأخير. انقضّت عليه بعنف، بأشكال وأصوات رهيبة مرعبة عساها تنال من رباطة جأشه وشدّة اتكاله على الرب يسوع فلم تُفلح. وقد اعتاد استقبال زائريه برحابة ولطافة كبيرين، صغارا وكبارا، أغنياء وفقراء، أبرارا وخطأة. محبة يسوع كانت فيه واسعه، وكانوا يأتون إليه من كل صوب. كان يحب الصلاة والجموع والقراءة عليها.

وقد وضع العديد من الأناشيد ولقّنها إياها. من كلمات أناشيده ما يلي: "المساكين يباركونك، ربي، في فقرهم: المجد لك، أيها الآب السماوي. المجد لابنك. المجد للروح القدس المتكلّم بالأنبياء. بالسماويين نتّحد لنمدحك على الأرض كما هم في السماء مرتلين: قدوس، قدوس، قدوس الرب إلهنا. السماوات والأرض مملوءة من مجدك . يا مبدع الكون! قلت فكانت، شئت فخُلقت. شريعة أعطيتنا فلا تتغيّر. نشكرك يا مخلصنا على كل شيء. أيها الرب، إله كل فضيلة، تألمت لأجلنا وقمت وأريت نفسك لتلاميذك. إلى السماء صعدت ومن هناك تعود لتدين العالم. ارأف بنا وخلصنا. نسجد لديك خاضعين لك بالكامل في شقاءنا وأتعابنا. نلتمس رحمتك، يا من هو مخلصنا، فإنك أنت بالحقيقة إله المقبلين إلى صلاحك بقلب تائب. يا من هو جالس على الشاروبيم وقد شقّ السماوات ارأف بخلائقك وقُدهم إلى الخلاص. ليفرح بك الأبرار، يا رب، وليشفعوا بنا لدى عظمتك الإلهية. أيها الرب يسوع، إله القديسين، لك الكرامة والمجد".

وإلى أناشيده كانت له مواعظ مؤثّرة فأخذ طلاّب حياة التوحّد يفدون إليه ويسألونه الإنضواء تحت لوائه.

مرة، في عمق الليل، فيما كان يتلو صلاة السحر، والذين كانوا خارج قلايته يُصلّون أيضا، فتح النافذة وصرخ ثلاثا: "تبارك الله". ثم طأطأ رأسه وأعلن متنهدا:" يا أولادي، لقد انطفأ نور الشرق العظيم. سمعان، أبونا، رقد لتوّه!" فلما وصل الخبر بعد أيام تبيّن أن رقاد القديس سمعان العمودي الكبير كان في الساعة التي أعلن عنها أفكسنديوس تلك الليلة.

كذلك رغبت النساء بحياة الوحدة في عهدة رجل الله، ومنهن الفتريا وكوزمي وقد وضع لهن قواعد خاصة وألبسهن لباسا خاصا. وقد ازداد عدد النساء المنضمّات إلى جماعته حتى بلغن الستين. وقد جرى بناء دير لهن في أسفل الجبل. يشار إلى ان قديسنا كان، خلال فترة تأسيس هذا الدير، يقيم لهن القداس الالهي وكن يقبلن عليه ليسمعن مواعظه. كما خرج في أيامه الأخيرة من قلايته لزيارتهن والصلاة عليهن. بعد ذلك بثلاثة أيام مرض ورقد في الرابع عشر من شباط من سنة لا نعرفها بالتحديد .

ويبدو أن وفاته كانت بين سنة وفاة القديس سمعان العمودي في 459م وسنة وفاة لاون الأمبراطور في 474م. مؤرخة يذكر أنه صار أرشمندريتا مما يدل على كونه أنشأ ديرا رجليا نشأ، ربما، حول مغارته. ويظهر أن رهبانا استمروا هناك ثلاثمائة عام. والعديد من الآباء الأبرار البارزين نسكوا في مغارته كمثل استفانوس الصغير وسرجيوس تلميذ القديس أفكسنديوس. من معين هذا الأخير، فيما يبدو، استمدد كاتب سيرة قديسنا بعض ما ورد فيها.