كلمة البطريرك يوحنا العاشر في فندق دوما الكبير

كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في فندق دوما الكبير لمناسبة افتتاح متحف المطران أنطونيوس بشير، 5 تشرين الأول 2025
 
سيادة المطران سلوان موسي متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما،
السادة المطارنة،
أيها الحضور الكريم،
أتوجه اليكم باسم الله الذي هو "الجمال الذي سيخلص العالم".
أطلّ عليكم من هذه الدوما الجميلة التي أسسها اليونان القدامى فسحة للأساطير ونذروها لـ "اسكلابيوس" إله الصحة. بلدةٌ تمسحنت في نهاية القرن الرابع مع دخول المسيحية إلى جبل لبنان. فصارت معابدُها كنائسَ.
بلدةٌ موقعها الوسيط جعلها مدنيَّةً. جعلها فسحة للتبادل والتفاعل بين الداخل السوري والساحل اللبناني، وارتبطت عوائلها بعوائلِ مدن هذا المشرق.
لقبت بدوما الحديد وتألقت في القرن التاسع عشر كقصبة مشرقية متملِّكةٍ على هذه الناحية من جبل لبنان القديم. فصار سوقها مقصداً، صار نقطة التقاء ليس فقط للتجارة بل للأفكار والتفاعل. فشكّلت بتنوع نسيجها أفضل صورة عن هذا المشرق. إنها دُوما، حكاية قصبة مشرقية أسسها أهلها على قيمٍ ناظمةٍ للحضارة والسوق. إنها أرض المتروبوليت أنطونيوس بشير الذي نفتتح متحفه اليوم، وأرض الرهبان والراهبات والقديسين والقديسات المجهولين الذين قدسوا هذه الأرض.
أعطتها منظمة السياحة العالمية لقب "واحدة من أجمل البلدات في العالم". وجمالُ الأمكنة انعكاسٌ لجمالات بشر صنعت هذه الأمكنة. وما المطران أنطونيوس بشير، متروبوليت نيويورك وسائر أمريكا الشمالية ما بين 1936 حتى 1966 إلا واحدٌ من أولئك الذين زرعوا الجمال ليس فقط في أبرشيته حيث أسس أكثر من ثلاثٍ وستّين رعيةً. لقد زرع محبته في أنطاكية وسائر المشرق. فموّل بناء معهد القديس يوحنا الدمشقي للاهوت. هو ابن حيّ السيدة التي بقيت راعيتَهُ في أحلك وأفضل أيامه. أراه واقفاً اليوم أمام أيقونتها ساجداً برفقة أمه زينة يطلب الرّحمة لنفسي عبدي الله حنّا ونينا أيوب اللذين موّلا إنشاء هذا المتحف.
نقف اليوم في دياره التي لرب الجنود، وفي حضرة غابات الزيتون، وننحني أمام جلال هذه الجبال. فنهمس في الأرض علّ السماء تلتقط تنهداتنا. نلتمس على هذه الأرض قداسةَ خرائبِ كنائسَ قديمةٍ لقديسي أنطاكية الذين كانوا منسيّين. نسأل شفاعة شربل الرهاوي وشليطا وفوقا ونهرا وضومط وغيرهم.
نقف اليوم في بلدة المطران بشير التي ترمز الى تكاتف المنتشر مع المُقيم. فبيوت هذه البلدة القرميدية تبلغكم قصص أناس هاجرت الى أمريكا، وأبت إلا أن تعود ولو بيتاً قرميدياً. فمن هاجروا منها تكاملوا مع من قرروا أن يحرسوا الأرض وتراب الأرض.
يطيب لنا أن نقف في قصبة مشرقية من قصبات جبل لبنان القديم كي نبلِّغ العالم أنّ المشرق ما زال بألف خير وبأنه لا يموت. نعلن ومن هنا تمسكنا به قضيةً وذاكرة حيةً للكوزموبوليتيّةِ لا تزول الى انقضاء الدهر.
المشرق فسيفساءُ حضارة العالم القديم وسحرُ المتوسط، ليس فقط فسحةً جغرافيةً، بل هو حالةٌ روحيةٌ ونظامُ عيشٍ وتنوّعٌ وانفتاح. هو حيث سمي التلاميذُ أولاً مسيحيين، هو مكان اللقيا والتعددية التي ليست عبءً بل قوةً وغنىً. هو ضمانتنا وضمانة العالم كي لا يتحوّل التاريخ الى ساحة عراك وخصام. أناسه فريدون. تعلموا الإنكليزية والفرنسية في مدارس الإرساليات، والروسية في المدارس المسكوبية، واليونانية في المدارس الاكليريكية. شيوخه يتلون صلواتهم إلى ربهم بالعربية واليونانية والسريانية. كوزموبوليتيّتُه ما كانت حكراً على النخب بل منسوجةً في حياة الناس. هو لقيا الشرق بالغرب، والإسلام بأوروبا، والتقليد بالحداثة.
وافيتكم اليوم سالكاً درب سلفيّ البطريركين مكاريوس الثالث ابن الزعيم والياس الرابع معوض إلى دوما كي أتكلم عن السلام العادل والشامل. من حق أناس هذه الأرض أن يعيشوا بسلام. من حقهم أن يعيشوا بكرامة. أترى من يوقف شلالات الدماء في غزة؟ من يوقف كل هذا الجنون؟
نَنشد سلاماً واستقراراً ورغداً للبنان وسوريا. نَنشد سلاماً لمشرقنا من أرض المطران بشير التي عرفت أهوال الحرب العظمى، فقضى أكثرُ من ثلث سكانها حتى غصّت المدافن بالجثث. وهرب الثلث الثاني من الجوع. ركبوا البحر الذي حملهم الى شواطئ نيويورك وبالتحديد الى بروكلين. يجب ألا يبقى أهل هذه الأرض مشردين وهائمين على وجوههم. حان الوقت كي تصير السيوف سككًا والرماح مناجلَ. فلا ترفع أمّة على أمّة سيفاً، و"لا يتعلمون الحرب فيما بعد" كما ورد في الكتاب. المطلوب أن تزول صور القباحة التي تولّد دورات عنفٍ وكراهيةٍ. ولنصنع صوراً للسلام تليق بإنسان هذه الأرض كي لا تتولد الحرب من بعد. نصلي كي تعود موانئنا تصدرُ تعدديةً وحضارةً وحواراً لا أزماتٍ. نؤازر من بقوا ونعِدُ من هاجروا أن نعمل وإياهم كي تبقى الذاكرة هوية والمشرقية أنماط حياة فلا تزول نكهتُنا وطعمُنا ولونُنا عن وجه الأرض.
بوركتكم جميعاً. بوركت دُوما التي تتفيأ بمجد أرز لبنان. بوركت دُوما عنواناً ورايةً للجمال الذي يعكس أولاً وأخيراً جمال روحكم أحبتي الحاضرين أبناءَ هذه البلدة. نسأل صلوات أبينا المثلث الرحمة المطران أنطونيوس بشير ومعكم جميعاً نسأل له رحمات الله ونقول: فليكن ذكره مؤبداً.
وفي الختام، نرجو من الله أن يؤهلنا للقياكم دائماً بخيرٍ واطّرادِ فلاحٍ وأمنٍ ودوامٍ يُمنٍ برحمةِ الله وعنايته، آمين.