الرسالة الرعائيّة الميلاديّة - ٢٠١٨

2018-12-20

برحمة الله تعالى

يوحنا العاشر

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

إلى

إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة

وأبنائي وبناتي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي

 

"إنني اليوم أسمع في بيت لحم من العادمي الأجساد: المجد في الأعالي لله الذي سر أن يكون السلام في الأرض[1]"

هذا ما تقوله الكنيسة في الميلاد المجيد بلسان ناظم التسابيح. "إنني اليوم أسمعُ". ها حدثُ الميلاد لا قبل ألفي عام فحسب لا بل الآن. اليوم أسمع، تقول الكنيسة، صوت الملائكة مرنمين لميلاد المسيح. واليوم، ومن أي مكان أتواجد فيه، أدخل في القلب والذهن إلى بيت لحم وإلى مغارة الميلاد. واليوم أرى وأعاين، ولا أقرأ فقط في صفحات الإنجيل، وأسمع وعلى لسان الملائكة: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة".  

لقد سر الله أن يكون السلام في الأرض. سلام الناس إن لم يقترن بسلام الله فهو زيفٌ محض. وعيد الميلاد هو بالدرجة الأولى عيد السلام الرباني الذي يتوق إليه هذا العالم المتخبط وسط أمواج العنف والقلاقل. عيد الميلاد هو عيد ذاك الطفل يسوع المسيح الذي لم يجد له في دنيانا أقدس من حشا البتول وأرحب من عتمة المغارة ليحل فيها وينفض نوره في دياجيرها لترتقص سماءً كللت بالمجد.

الله لم يأت لخلاص شعب معين دون سواه. ويسوع المسيح الذي اقتاد بنوره المجوس من أقاصي الأرض هو إياه الذي ينادي البشرية جمعاء بصوت القلب والضمير إلى ميناء السلام. في كل عام تتوق هذه البشرية إلى سلامه فيكتسي شتاؤها بدفء المغارة وبزينة الميلاد. فالقلب البشري بفطرته ميال إلى السكينة وإلى السلام رغم كل شيء. والسلام على الأرض هو مشيئة الله ومسرته. ومجده في الأعالي هو الذي ينعكس سلاماً هنا على الأرض. والناس ههنا ينظرون مجد الله في العلى بالقدر الذي يتحسسون فيه سلامه الإلهي منعكساً ومستقراً في النفس البشرية وفي علاقتها بالآخر وفي بقاع الأرض. الله لم يجد أفضل من قيمة السلام ليُسبَر بها مجده من أعينٍ بشرية.

ونحن كمسيحيين أنطاكيين قلبنا في هذا الشرق العظيم وامتدادنا إلى العالم بأسره. نحن أشبه ما نكون بمزود بيت لحم الذي احتضن المسيح وأفاح عبيره إلى الدنيا. نحن من صلب هذا الشرق ومن ضعة جبروته الأرضي. لم نحتمِ بأحد ودرة تاجنا يسوع المسيح، وإياه رباً مصلوباً، كما يقول بولس الرسول. ومزود بيت لحم من ذات الطينة التي اقتبلت في قلبها الطفل المولود فأشع نوره للعالم. اقتبلنا كالمزود طفلاً وديعاً ونقلناه إلى الدنيا بأفواه الرسل رباً قديراً مخلصاً ومحباً. مزود بيت لحم اقتبل المسيح مولوداً وكنيسة أنطاكية مزودٌ اقتبل بشارته وأعطى لتلاميذه لقب مسيحيين. مزود بيت لحم عرف الرب متواضعاً وفي ظلمة مغارةٍ وفي ضيقة حال لكن كل ذلك لم يقف حائلاً أمام إنجيل خلاصٍ فاضت أنواره في الدنيا. وكنيسة أنطاكية عرفت الرب متواضعاً وفي دجى تاريخ وفي محن كثيرة، لكنها حفظت ومنذ ألفي عام وستحفظ أمانتها ليسوع المسيح بشارةً اكتسحت أصقاع الأرض. مهدُ بيت لحم ضمَّ المسيح من ألفي عام وقدمه إلى الدنيا وكنيسة أنطاكية مهدٌ فكري مسيحي اقتبل البشارة من أفواه الرسل وزنّر بها الأرض تهليلاً للرب المخلص. إن قوةً في هذه الدنيا لن تقتلع منا رجاءنا المسيحي وتمسكنا بأرضنا التي عشنا فيها مع كل الأطياف كل نوازل وصواعد التاريخ بأخوةٍ. نحن توأم هذا الشرق وتوأم الأمانة والإيمان فيه. نحن إنجيله المسكوبُ بشارةً في القلوب قبل الأسفار.

صلاتنا اليوم إلى الرب المخلص أن يغرس سلامه في الشرق وفي العالم أجمع. صلاتنا من أجل سلام سوريا واستقرار لبنان ومن أجل العراق وسائر بلدان وبقاع هذا الشرق. صلاتنا من أجل فلسطين وعاصمتها القدس التي بقيت وستبقى في قلبنا عصيّة على كل محنة. صلاتنا من أجل عودة المخطوفين، كل المخطوفين ومنهم أخوانا مطرانا حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي والذين تمثل قضيتهما غصّةً في قلبنا وفي قلب كل مسيحي ومسلم ومشرقي وفي قلب كل أخٍ لهما في الإنسانية التوّاقة إلى السلام. صلاتنا من أجل كل ملتاع وكل مهجر ومفقود. وصلاتنا إلى الرب القدير من أجل من سبقونا على رجاء القيامة والحياة الأبدية ودعاؤنا من أجل سلام العالم ومعونته.

رجاؤنا في العيد الحاضر أن يجعل الإنسان من قلبه مغارةً يستقبل فيها ملك المجد. وصلاتنا إلى طفل المغارة من أجلكم يا أبناءنا في الكرسي الأنطاكي في الوطن وفي بلاد الانتشار. وليكن الميلاد المجيد مفيضاً في كل نفسٍ شيئاً من هدوء وسلام رب السلام له المجد والرفعة إلى الأبد، آمين. 

صدر عن مقامنا البطريركي بدمشق

بتاريخ العشرين من كانون الأول للعام 2018.



[1]  من قطع ليتين عيد الميلاد.