كلُّ واحد منّا هو غصنٌ متفرِّعٌ من هذه الكرمة…

2013-03-13

الأحد الثاني من الصوم

ذكرى القديس غريغوريوس بالاماس في كنيسة القديس جاورجيوس، التجارة - دمشق

 

grego

يا أحبّة، نحن اليوم في هذا الأحد، الذي يصادف الأحد الثاني من الصوم الأربعينيّ المقدّس، والذي نجتازه كي نصل إلى يوم الفصح المجيد.

حددّ آباؤنا القدّيسون في الأحد الثاني من الصوم من كلّ عام، أن نقيم تذكاراً لواحدٍ من آباء الكنيسة الكبار، القدّيس غريغوريوس بالاماس.

القديس غريغوريوس بالاماس، كان راهباً وناسكاً في الجبل المقدّس في بلاد اليونان، مِن ثَمَّ أصبح رئيساً لأساقفة مدينة تسالونيك. هذا الأب عُرِفَ بِحُبِّهِ وعِشقِهِ لله، وترك كتابات كثيرة. من أهمِّ المواضيع التي تحدّثَ عنها القدّيس غريغوريوس بالاماس موضوع النعمة، نعمة الله، مجدِهِ ونُورِه. أراد أن يُخبرَنا أن الذين يتبعون الربَّ ويُحِبُّونَه ويسعون ليكونوا معه، يكافؤون بنور مجده الإلهيّ. كما يُذكِّرُنا بما حدث مع التلاميذ يوم التجلّي، عندما ظهر الربُّ أمامَهُم وكشفَ لهم مجدَهُ، وتحوّلَتْ ثيابُه إلى بيضاء ناصعة، أكثر بياضاً من الثلج، ونورُه أقوى من الشمس. هذا هو مجد الله ونوره الذي غمرنا به، نحن أحبّاءَه والذين نُرضِيه في حياتِنا على هذه الأرض.

لذا، حدَّدَ آباءُ الكنيسةِ الأحدَ الثّانيَ من الصوم لِتَذكارِ هذا القدّيس، بالإضافةِ إلى عيدِه الواقع في الرّابع عشر من تشرين الثّاني، لأنّه يتكلّمُ عن النعمة، عن مجدِ الله ونُورِه، لِيُذَكِّرَنا ويقولَ لنا إنّنا نحن الصائمين والمُصَلِّينَ والسّاعِينَ بِكُلِّ ما نقومُ به من أعمالٍ خيّرةٍ ومن أعمال تُرضي وجه الربّ، نحن الساعين أن نحيا بحسب وصيّةِ الإنجيل وبحسب الكتاب المقدّس في حياتنا، وبشكلٍ خاصٍّ في هذه الأيّام، أيّامِ الصوم التي تتشابك فيها الصلوات والأصوام والأسهار والأتعاب وأعمال الخير والمحبّة والإحسان والعطاء، بشكل مكثَّفٍ في هذه الأيّامِ المباركة. نقوم بكلِّ ما نقوم به لأنّنا نتبيّنُ وجهَ الله، مجدَهُ ونُورَهُ.

نعم، نحن أشخاصٌ نتكلّمُ عن النُّورِ في هذه الأيّام، لا عن الظلمة، ولذلك مسيرتُنا في هذا الصّومِ مسيرةُ نُورٍ واستنارة. وهذا ما سمعناه قبل قليل في ما قاله الرسول القديس بولس في رسالته إلى العبرانيّين، حيث يتكلّمُ عن الخلاص، الخلاص الذي أتانا من السماء والذي أعطانا إيّاه الرّبّ. وفي نهاية الرسالةِ يقول: "يجب علينا أن نُصغِيَ إلى ما سمعناهُ -أي الخلاص الذي أعلنَهُ الرّبُّ لنا من السماء- إصغاءً أَشَدَّ، فإنّها إن كانت الكلمةُ التي نُطِقَ بها على ألسنةِ الملائكةِ قد ثَبَتَتْ، وَكُلُّ تَعَدٍّ أو مَعصِيَةٍ قد نالَ جَزاءً عادلاً ، فكيف نُفلِتُ نحن إنْ أهمَلْنا خلَاصاً عظيماً كهذا، ابتدأ النُّطقُ به على لسان الرّبّ، ثُمَّ ثبَّتَهُ لنا الذين سَمِعُوه". نعم، نحن أشخاصٌ لا نريد أن نُهملَ خلاصاً عظيماً كهذا أعلنه لنا الربّ، كما سمعنا من بولس الرسول، هذا الخلاص الذي ابتدأ النطقُ به على لسانِ الرّبّ، وقد ثبَّتَهُ لنا الرُّسُلُ التّلاميذُ الذين قَبِلُوهُ وسَمِعُوه. هذا الخلاص نحن نتمسّكُ به، ولذلك هذا ما نُعرِبُ عنه في حياتنا وفي هذه الأيّامِ بشكلٍ خاصّ، حيث نصوم ونسعى أن نتطهّرَ، أن نتنقّى، وأن نتشبّهَ بالقدّيس غريغوريوس بالاماس وسائر القدّيسين الذين تكلّموا عن النور والاستنارة لا عن الظلمة، كيف أنّ على الإنسان أن يرتقي.

karma

يقول الآباء القدّيسون يا أحبّاء، أنّ على الإنسان في حياته الروحيّة، في كيانه الداخليّ، أن يرتقي إلى مرحلة ما فوق الخطيئة التي تسيطر على ذهنه وقلبه وعقله ومشاعره فيتجاذبه، مثلاً الغضب، الغيرة، الحسد، الكذب، الشراهة، الشهوة وكلّ ما شابهها. على الإنسان أن ينعتق من هذه الحالة وأن يرتقي ويصعد إلى فوق، إلى العلا، أي أن يستنير وأن لا تعود ما نسمّيها الأهواء تسيطر على ذهنه وقلبه بل أن تسيطر على قلبه بدلاً منها وصيّةُ الله، كلمة الله التي نتلوها والتي نقرأها في الكتاب المقدس. نحن نذكر الكلام الذي قاله الرب: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان" كلُّ واحد منّا هو غصنٌ متفرِّعٌ من هذه الكرمة وعليه أن يتغذّى من هذا الجذع الذي هو المسيح، وأن يفتدي هذه الحياة المسيحية، هذه الحياة الإلهية وليس أي شيء آخر.

فآنذاك تنجلي من حياة الإنسان كلُّ ضغينة، وتنفتح أمامَهُ أبوابُ الملكوتِ وأبوابُ السّموات. وهذا هو سعينا، هذا هو صومنا وهذي هي صلاتنا. عندما نصلّي ونقول: "يا من في كُلِّ وقتٍ وفي كل ساعة مسجودٌ له"  في السّماء وعلى الأرض، عندما نُصَلّي ونقول: "أبانا الذي في السموات"، عندما نطلب الرحمة ونقول "يا رب ارحم"، ونُعيدها أكثر من مرّةٍ سائلين رحمة الربّ "يا رب ارحم". لِمَ كُلُّ هذا؟ كلُّ هذا كي ينعتقَ الإنسان من إنسانِه القديم، العتيق، الباطل، المتلبّس بالخطيئةِ والرّذيلة، وأن ينفتحَ على الإنسان الجديد، على آدم الجديد، على الاستنارة. ولهذا تُذَكِّرُنا الكنيسةُ اليومَ بأمثال القدّيس غريغوريوس بالاماس، وفي كُلِّ أحد، بقدّيسِينَ آخَرين، كي نتذكّرَ هذه المُثُلَ، وكي نقتديَ بحياتهم و نسعى أن ننسى ما وراءَنا وأن نمتدَّ بكل أنفسنا إلى ما هو أمام. الوراء هو الظلمة والخطيئة، الأمام هو النور والاستنارة. هذا ما أعلنّاه في يوم معموديّتِنا. دَعُونا نستذكرُ جميعُنا، يومَ المعموديّة، حيث يقول الكاهنُ للعرّابِ وللمعّمد أمام كلّ الموجودين،: "فلنتّجِهْ نحو الغَربِ" رمزِ الظُّلمة، ويسأله: "أَترفُضُ الشيطان وكلَّ أعمالِهِ وكلَّ أباطيله؟" فيجيبه: "نعم أرفض الشيطان". يقول له الكاهن: "اتَّجِهْ نحو الشّرق"، النور، الشمس الحقيقيّة والتي هي المسيح، ويسأله: "أَتُوافِقُ المسيح؟" يقول له: "نعم، أوافق المسيح". وكأنّنا نُريدُ أن نُدْلِيَ بِاعتِرافِنا الإيمانيّ ألا وهو، أنّنا عندما نريد أن ننضمّ إلى جسدِ المسيح، إلى الكنيسة، ونأخذ هذا الاسمَ الذي هو اسمُ "مسيحيّ"، نرفض الظلمة، نَدحَرُ الشيطانَ وكُلَّ أعمالِه وكلَّ أباطيلِه، ونتّجِهُ نحو الشرق، نحو النور ونوافق المسيح ونقول إنّه هو الملك وهو السيّدُ في حياتنا. نحنُ نسعى في حياتنا على الأرضِ إلى تحقيقِ هذا، لكي نكون أبناءَ الملكوتِ وأبناءَ الفضيلة. آنذاك يكون ذهنُنا وقَلبُنا في المسيح يسوع، وكذلكَ كُلُّ عضوٍ مِن أعضائِنا. هذا الكيانُ البَشَرِيُّ الذي يُفكِّرُ وَيُحِبُّ ويقومُ بكُلِّ ما يقومُ به، إنّما يفعلُ ذلكَ كُلَّهُ بالمسيح يسوع. مسعانا أن نتخلّى عن الخطيئة والرّذيلة، عن الموت، والضّعف، والسّقطة، وهذا ما يحتاجه الإنسان في كلّ وقت وفي كلّ آن، وخاصةّ في هذه الأيّام القاسية التي نَمُرُّ فيها. نحن بحاجة لنتذكّرَ أكثر فأكثر هذا الكلام، حتى يعود الإنسانُ إلى رشده ويعرف أننا نحن البشر، أرادنا الله أن نكون أبناء قيامة، أبناء حياة، أبناء فرحٍ ونور وليس أبناء ظلمة أو أبناء موت، علينا أن نتذكّر يا أحبّة في هذه الأيّام، نعمة الربّ. هذا هو المعنى الحقيقيُّ لِوُجُودِنا نحن البشر، وعلينا أن نُحقِقَهُ لكي نشهدَ الشهادةَ الحقيقيّةَ للرّبّ، فيتباركَ اسمُهُ ويتمجّد، هو المباركُ والممجَّدُ إلى الأبد. أمين.