رسالة رعائية

2013-02-17

يوحنّا العاشر

بطريرك أنطاكية وسائرِ المشرقِ للرّومِ الأرثوذكس


رسالةٌ رعائيّةٌ

"بِالنِّعمةِ نَنْمُو،

وَبِالخدمةِ نَسْمُو،

بِالمَحبَّةِ يَتَناسَقُ البُنيان"


الفهرس

مقدمة
1. البشارة
2. خدمةُ التَّسبيح
3. مؤسَّساتُنا ذراعُ خيرٍ نحو القريب
4. كهنوتٌ مسؤول
5. المحبَّةُ والرِّعاية

أ- التّنشِئةُ المسيحيّةُ وَتَنمِيَةُ الوَعْيِ الدِّينِيّ
ب- رعاية الشباب
ج- رعايةُ المرأة
د- رِعَايَةُ الأُسرَة
هـ- رعايةُ الفُقَراء
و - رِعايةُ ذَوِي الحاجاتِ الخاصّة
ز- مَعرِفَةُ واقعِ رَعايانا والاهتمامُ بها

6.     تنميةُ الحَياةِ الرّهبانيّةِ في الأديار
7.     كرسيُّنا الأنطاكيُّ واحدٌ مُتَّحِد
8.     مُقارَبةٌ لواقعِنا الأرثوذكسيِّ المعاصر
9.     نحو وحدة أسرارية كاملة بين المسيحيِّين
10.    حِوارُ الأديان
11.    حضورٌ مسؤولٌ على صعيدِ الإنسانِ والمجتمع
12.    التزامُ شؤونِ الأرض


برحمةِ الله تعالى
يوحنّا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائرِ المشرقِ للرّومِ الأرثوذكس
إلى سائرِ أحبّائِنا بالرّبّ
أبناءِ الكرسيِّ الأنطاكيِّ المقدّس، إكليروسًا وشعبًا

"وقد بُنيتُم على أساسِ الرُّسُلِ والأنبياء، وَحَجَرُ الزّاوِيَةِ هُوَ يَسُوعُ نفسُهُ، الّذي بِهِ يُنسَّقُ البُنيانُ كُلُّهُ، فَيَنمُو هيكلاً مُقَدَّسًا لِلرَّبّ" (أف 20:2-21).

أحبّائيّ،
يَسُرُّني أن أتوجّهَ إلى محبَّتِكُم بواسطةِ هذه الرّسالةِ، علّها تنقلُ إليكم بعضَ هَواجِسي في ما تحتاجُ له كنيستُنا اليومَ، وما هو مطلوبٌ مِن كُلِّ واحدٍ مِنّا. أودُّ أن تكونَ هذهِ العبارةُ:


"بِالنِّعمةِ نَنْمُو، وَبِالخدمةِ نَسْمُو، وَبِالمَحبَّةِ يَتَناسَقُ البُنيان"


شعارًا لولايتي السُّدَّةَ البطريركيّةَ الأنطاكيّةَ التي أرادني اللهُ أن أكونَ ساهرًا عليها وحاضنًا لأبنائِها مع إخوتي رؤساءِ الكهنة. الكنيسةُ هي كنيستُنا جميعًا، وقد أرادَنا اللهُ أن نكونَ فيها إخوةً، نَعملُ معًا كالجسدِ الواحد. أَعرفُ أنّ بينَكم كثيرين يَشتَكُونَ أنّهم لا يَسمعونَ بما فيه الكفايةُ صوتَ كنيستِهم، معتقدين أنّها تُهمِلُهم ولا تكترثُ لِمشاكلِهم الحقيقيّة، وآخرين، في المُقابِل، يَتذمَّرُون مِن أنَّ كثيرين لا يَلتفتونَ إلى كنيستِهم ولا يَهتمّون بقضاياها. إنّي أتفهَّمُ هذه الشّكوى، وأتمزّقُ مع كلِّ واحدٍ ابْتَعَدَ عن حظيرةِ المسيحِ لإهمالٍ أو تَعالٍ أو تَكاسُلٍ أو عَدَمِ شَفافيةٍ أو قِلَّةِ اكتراث. رَغبَتي الصّادِقةُ هِيَ أن نتشاركَ في حَمْلِ مسؤوليّةِ هذه الكنيسةِ الّتي يَقولُ الذّهبيُّ الفَمِ إنّها مسؤوليّتُنا جميعًا. وسنكونُ مسؤولين عنها حقًّا إنِ احترَمْنا مواهِبَنا المُتَكامِلَة، وَتَعاوَنّا جميعًا لِلاهتمامِ بِشُؤونِ العائلةِ المشتركة.


ولكي يَهتمَّ الإنسانُ بأمورِ عائلتِه، عليه أن يَتعرَّفَ إلى أوضاعِها، ويَرجوَ أن تَعرفَ هواجسَه وصعوباتِه. علينا إذًا أن نبتكرَ الأساليبَ المتنوّعةَ الّتي مِن شأنِها أن تجعلَ كُلاًّ مِنّا يَستمعُ إلى الآخَر، قبلَ الوُلُوجِ في الوَعظِ والتّخطيط.


عاشَتْ كنيستُنا في الفترةِ الغابرة، بِهِمّةِ وتضحياتِ المثلَّثِ الرَّحَمات، سَلَفِي المغبوطِ الذّكر، البطريركِ إغناطيوسَ الرّابع، والسّادةِ مَطارنةِ الكرسيّ الأنطاكيّ، إنجازاتٍ كبيرةً سمحَ لنا الرُّوحُ بِإتمامها بمساعدةِ إخوةٍ غَيارى. إنّ هذه الإنجازات هي الآن في عُهْدَتِنا جميعًا لِتثبيتِها وتطويرِها، وجَعلِها أكثرَ خدمةً في شَرِكَةِ المحبّةِ لِجَميعِ أبنائِنا والإخوةِ الذين يُشارِكُونَنا هذه الأرضَ الطيّبة.


سنسعى إلى إعطاءِ الجميعِ المجالَ أن يُبدِيَ رأيَهُ واقتراحاتِهِ البَنّاءة، لكي نَنزِعَ عن كنيستِنا العروس، بِالشُّورى والتّعاضُدِ والمُشارَكَةِ الفِعليّة، كُلَّ وَهَنٍ وَكُلَّ غَضَنٍ وَكُلَّ شَيءٍ مثلِ ذلك، لِتَكُونَ كَما يُريدُها رَبُّها وَسَيِّدُها، مِرآةً لِوَجهِهِ المَجيد. إذ ذاك، ومِن خِلالِ خِدمةِ الكنيسةِ وتوَاضُعِها وَلَمِّ شَمْلِ أبنائِها وافتقادِهم بالمحبّةِ والرّعايةِ الواعية، السّاهرة، والمنتبهَةِ إلى تحدّياتِ العصرِ وقَسوةِ الأوضاع الّتي يَعيشُونَها، يُدرِكُ العالَمُ أنّهُ محبوبٌ كثيرًا من ربِّها.


هذا الكُرّاسُ الّذي بينَ أَيدِيكُم هو خُطوَةٌ أُولى في مِشوارٍ طويلٍ سنمشيه معًا، ساهرينَ دَومًا على العملِ المشترَكِ وَوَضْعِ إمكاناتِ كُلِّ واحدٍ مِنّا في خدمةِ الجميع، وخِدمةِ هذا المجتمعِ الّذي أَرادَنا الله أن نَكونَ فيه شُهُودًا لَهُ وَلِمَحَبَّتِه. سَتَجِدُونَ فيه الخُطُوطَ العريضةَ التي أَوّدُّ وَضْعَها أمامَ أَعيُنِنا لِتَقويمِ المُعْوَجِّ في مسيرتِنا المُشترَكة، وَتثبيتِ الصّالحِ فيها، ضِمنَ هذه الكنيسةِ الّتي ارتضى يسوعُ أن يَأْتَمِنَنا عليها، لكي نجعلَ منها حقًّا ضميرَ العالَم. إنّها، كما قُلْتُ، خُطوطٌ عريضةٌ وعناوينُ، سنَجتهدُ بمساعدتِكم أن نُوَسِّعَها في المستقبل القريب، علّنا نُترجمُها سريعًا إلى خِطّةِ عملٍ نتعاونُ على تحقيقِها لِمَجدِ الربِّ وتوطيدِ محبّتِنا المتبادَلةِ فيه.

1- البشارة:

قالَ الرَّبُّ: "أنا لهذا وُلِدْتُ وَلِهذا أَتَيتُ لِكَي أَشْهَدَ لِلحَقّ" (يو 37:18). وقال لنا: "ستكونون لِي شُهُودًا" (أع 8:1). نحن شُهودٌ لِلحَقّ، الحقِّ الّذي هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ المَسيح، والّذي نَشهَدُ لَهُ بِحِفْظِنا وَصاياه، وَهُوَ القائلُ "مَنْ يُحِبُّني يَحفَظُ وَصايايَ" (يو 14: 15). فَالبِشارةُ هي قِوامُ الرّسالةِ الّتي تَقُومُ بها الكنيسةُ في صَميمِ هُوِيَّتِها، أيْ أنْ تَحمِلَ الكلمةَ إلى جَميعِ الأوساطِ البَشَرِيّة، وأنْ تَسعى إلى تَجديدِها.


الشهادةُ وَخِدمةُ الكَلِمَةِ لا تَكُونُ بالعَودةِ إلى القديم، ولا التَّعَلُّقِ بتاريخٍ مَجيد، ولا التَّمَسُّكِ بِتَقليدٍ خارجِيٍّ لا قِيمةَ لَهُ اليَوم، بل تكونُ حقيقةً في كيفيّةِ المشارَكةِ الإنسانيّةِ في النّعمةِ الإلهيّة، أيْ أنْ نَعيشَ التّقليدَ بطريقةٍ ديناميكيَّةٍ حيَّة. علينا أن نُفكِّرَ جِدِّيًّا كيف تستطيعُ الكنيسةُ أنْ تُسمِعَ صَوتَها لِرُوحِ العصرِ المُتَباهي بِعُلُومِهِ وإنجازاتِه، وكيف تستطيعُ أن تَدخُلَ في حِوارٍ معَ النّاسِ وتَدْعُوَهُم لِلخَلاص، وكيف تُثَبِّتُ النّاسَ الّذين آمَنُوا بِسِرِّ خَلاصِهم.


فَلِكَي يُؤَدِّيَ المسيحيُّ رسالتَهُ هذه داخلَ المجتمع، يَلْزَمُهُ أَوّلاً أنْ يَقبَلَ هذا المجتمعَ وأنْ يُحِبَّهُ، بالرُّغمِ مِمّا فِيهِ مِن تَيّاراتٍ خطيرة وَشَرٍّ وفَسادٍ، الأُمُورِ الّتي لا تُوافِقُ الذَّوقَ ولا الضّميرَ المسيحيّ.


علينا أن نُعبِّرَ عن حقيقةِ إيمانِنا وَخِدمتِنا للكَلِمَةِ بِلُغَةِ العَصرِ وأساليبِه، وأن نستخدمَ وسائلَهُ التِّقْنِيّةَ (تكنولوجيَّاته)، وألاَّ نَكُونَ مُتَغَرِّبِينَ عن أبنائِنا وعن مجتمعاتِنا. مِنَ الحكمةِ أنْ نستخدمَ المَنابِرَ العصريَّةَ لِلمُناداةِ بالكلمة، هذه المنابرَ الّتي جعلَتْ مِنَ العالَمِ قريةً صغيرةً بعدَ أن أزالَتِ الحُدودَ الجُغرافيَّةَ بين الدُّوَلِ، ونَزَعَتِ الحَواجزَ مِن بينِ الثّقافات. فَوَسائلُ الإعلامِ هذه مِن شَأنِها أن تُوصِلَ الإنجيلَ إلى النّاسِ، أو أنْ تُبعِدَ الإيمانَ عن قُلُوبِهم. نعم، نستطيعُ مِن خِلالِها أن نَصلَ إلى المَلايينِ مِنَ البَشَرِ الّذين يُتابِعُونَها ويَستخدمونَها، فقد مَلأتْ مَنازِلَنا، لا بل استَوْلَتْ على الحَيِّزِ الأكبرِ مِن تفكيرِ أَولادِنا. وسَنَعمَلُ مَعَ اختِصاصِيِّينَ في كُلِّ الحُقُولِ لِتَكُونَ خِدمَتُنا لِلكَلِمَة، بِواسِطَةِ مَركَزٍ إِعلامِيٍّ مُتَخَصِّص، خِدمَةً مُتَمَثِّلَةً بِخِطابِ الرَّسُولِ بُطْرُسَ يَومَ العَنصَرة، تَقُومُ على الاِنفتاح، وعلى الحِوار، وعلى التّواصُل. نَحْنُ مَدْعُوُّونَ إلى إِعلامٍ لا يُرَكِّزُ عَلَينا بَلْ على مَحَبَّةِ اللهِ لِلعالَم؛ لأنَّ هذا الأخيرَ هُوَ مَنْ بَشَّرَتْهُ المَلائِكَةُ بِالسَّلامِ الّذي مِنْ فَوق.


علينا أنْ نَفرِضَ هُوِيَّتَنا ضِمنَ هذا التَّنَوُّعِ الهائل، وأن نُسمِع صَوتَنا بِقُوَّةٍ وَسْطَ هذه الأصوات، فَالرُّوحُ القُدُسُ مُقِيمٌ في الكَنيسةِ حَسَبَ وَعْدِ المسيح (يو 17:14)، وَيَعمَلُ فيها على الدّوام، ويُعطي أعضاءَها مَواهبَ العَنصَرةِ وخُبُراتِها. لِذلك علينا أن نقدِّمَ خُبُراتِ القَداسةِ والمَعرفةِ معًا بِدُونِ انفصالٍ وَبِلا تَناقُض، لِكي تَقُومَ الكنيسةُ بِدَورِها التَّربويِّ والإعلانيّ مِن أجلِ خدمةِ المؤمنينَ وَنُمُوِّهِمِ الرُّوحِيّ.


فَنَقْلُ الإنجيلِ إلى عالَمِ الأولادِ وإلى الشّباب، مثلاً، هُوَ مِنَ التَّحَدِّياتِ الّتي تَتَطَلَّبُ وَعْيًا وَجُهْدًا كبيرًا. لذلك مِنْ خِلالِ المَراكزِ الثّقافِيَّةِ والنَّوادي الكَنَسِيَّة، وَالمنشُوراتِ المكتوبةِ أو المقروءةِ إلكترونيَّاً، وَاستخدامِ الوسائلِ التقليديَّةِ مَعَ وسائلِ الإعلامِ والاتِّصالِ الحديثة، نستطيعُ أن نقوم بِمَهِمَّتِنا التَّربَوِيَّةِ وَخدمةِ الكلمةِ في كُلِّ نشاطاتِ الكنيسةِ وَالحِوارِ بين أعضائِها ومع الآخرين، بما لهذِهِ الوسائلِ من دَورٍ فعَّالٍ في المُساهَمَةِ في خَيرِ النّاس، على الرُّغمِ مِنَ الوُجُوهِ السَّلْبِيَّةِ الّتي لها. هكذا، نُعطي تَجديداً رُوحِيًّا لأبنائِنا وَلِلعالَم، وَنُوصِلُ البُشْرى السَّارَّةَ، ما اسْتَطَعْنا، إلى كُلِّ إنسان، حَسَبَ قَوْلِ الكتاب "إلى كُلِّ الأرضِ خَرجَ نِداؤُهُم، وَإلى أقاصِي المَسكُونَةِ كَلامُهُم" (مز 4:18).


هذا التجديدُ الرُّوحِيُّ يُلزِمُنَا ألاَّ نَستَهِينَ بالعُلومِ والفُنونِ والأدبيَّاتِ والثَّقافاتِ كافَّة؛ لأنَّ التّجربةَ الرُّوحيّةَ تَسمُو بِكافّةِ المَعارفِ لِتَبلُغَ بها أَقصى ما يُمكِنُ مِنَ الخَير. فالله قد أحبَّ العالَم، أَحبَّهُ كَمَا كَانَ، وَكَمَا هُوَ الآنَ تَماماً لا يَزال يُحِبُّه أيضاً. ونحن، أبناءَ اللهِ، يَجِبُ أنْ نُحبَّ العالَمَ ونَعتَنيَ بِهِ، وأنْ نُوجِّهَ خِدمَةَ الكلِمَةِ باستِخدامِ كافَّةِ هذهِ الوسائِل.

2- خدمةُ التَّسبيح:

"مُكمِّلين بعضُكم بعضاً بمزاميرَ وتسابيحَ وأغانيَ رُوحيّةٍ، مُتَرَنِّمِين وَمُرَتِّلِين في قُلُوبِكم للرَّب" (أف 5: 19).


الليتورجيا، كَمُناجاةِ المَخلُوقِ لِخالِقِه، هِيَ المَجالُ الّذي عَبّرَ فيه آباؤنا القدّيسُونَ عن تِلكَ العَلاقةِ الخاصّةِ لِلأبناءِ بِأَبِيهِمِ السَّماوِيّ، وَعَنِ استِقامَةِ إيمانِهم. هُمْ عاشُوا هذه الخِبْرَةَ وَعَبَّرُوا عَنْ بَعضٍ مِنها في كَلِماتٍ سَبَكُوها في شِعرٍ مُضَمَّخٍ بِالجِهاداتِ النُّسْكِيّة، فَأَتَتْ ثِمارُهُ صَلاةً عَكَسَتْ حَياةَ الكنيسةِ تاريخيًّا ولاهُوتِيًّا، بِحَيثُ بِتْنا نَستَعِيُد عُمْقَها وَحَلاوَتَها كُلَّما رَدَّدْناها.


لكنَّ الليتورجيا ليسَتْ شيئًا جامِدًا نُكَرِّرُهُ بِلا وَعْيٍ، بَلْ هِيَ تَعبيرٌ عَنْ حاجةِ البَشَرِ إلى مُخاطَبَةِ رَبِّهِم وشكرِهِ على نِعَمِه. وَبِهذا تَكُونُ الليتورجيا رُوحًا وَحَياةً نابِضَةً تَسْرِي في عُرُوقِ جَسَدِ الكنيسة، فَتُغَذِّي كُلَّ عُضْوٍ فيه. لذلك فَهِيَ تُحْيِي الكنيسةَ، جَماعَةً وَأَفراداً، بِالنِّعمةِ المُنْسَكِبَةِ هكذا عليها.


مِنْ هُنا نَرى أنّنا أمامَ جَوهَرَةٍ ثَمينة، وعلينا واجِبُ صَقْلِها وإظهارِ لَمَعانِها، مُؤَكِّدِينَ على ما يُشَكِّلُ جَوهَرَ الأَداءِ الليتورجيِّ وأَبعادِهِ الّتي تُنْشئُ المؤمنَ في المسيح. فلا بُدَّ إذاً منِ ابتِكارِ ما يُمَكِّنُ الشَّعبَ مِنَ الوُلُوجِ إلى عُمْقِ هذه الليتورجيا المُلْهِمةِ، لِيَنْهَلُوا مِنها وَيَغْتَنُوا بِها كأَداةِ خَلاصٍ وَفَهْمٍ لِسِرِّ الله.


نحن نُدرِكُ ما لِلخِدَمِ الطَّقْسِيَّةِ وَالحياةِ الأسراريّةِ مِن أَهمِّيَّةٍ في رَعايانا، وَما لإحياءِ هذه الخِدَمِ وَلِتَوحِيدِ الشَّكْلِ وَلِتَطْوِيرِ التَّرتِيلِ مِن دَورٍ أَساسٍ في الْتِحامِ الأَداءِ الليتورجيِّ بِالواقعِ الرِّعائيّ، إذ إنَّ مِن شَأنِ تَفعيلِ الوَجْهِ الرِّعائيِّ لِلِّيتُورجيا أنْ يُنَمِّيَ الوَعْيَ الدِّينِيَّ وأن يُعمِّقَ عَلاقةَ المَخلُوقِ بِخالِقِه، من خِلالِ جَعْلِ الكَلِماتِ مَفْهُومَةً لدى الشّعب، وإعادةِ العَمَلِ بالتّرتيبِ الليتورجيِّ الرِّعائيِّ الّذي يأخذُ بِعَينِ الاِعتبارِ خُصُوصِيّاتِ الرَّعايا وَحاجاتِ تَقديسِ الزَّمَنِ في عالَمٍ تَبَدَّلَ فيهِ عَدَدٌ مِنَ المَعايِيرِ الّتي تَضبُطُ الإيقاعَ الليتورجِيّ. كما أنّهُ لا بُدَّ لَنا أيضًا مِنِ استعادَةِ البُعْدِ الرِّعائيِّ لِكافَّةِ المُمارَساتِ الأسراريّة، لِتَكُونَ مِحْوَرَ حَياةِ الجَماعةِ المُؤمِنَة، لا مُجَرَّدَ مُناسَباتٍ شخصيّة.

3- مؤسَّساتُنا ذراعُ خيرٍ نحو القريب:

إنَّ مؤسَّساتِنا هيَ مُلْكُ الكَنيسَةِ، أي المؤمنين، فَهِيَ إذَن لِخدمَةِ المَصْلَحَةِ العامَّةِ للشَّعبِ المؤمنِ، وليسَ لتَلبيَةِ حاجاتٍ فرديَّةٍ أو شخصيَّة. هِيَ جُزءٌ من كَرْمِ الرَّبِّ الذي يَقولُ لَنا في الإنجيل: "يا بُنَيَّ اذْهَبِ اليَومِ وَاعمَلْ في كَرمِي" (مت 28:21). هذا العمَلُ المبارَكُ يَهْدِفُ إلى خِدْمَةِ شعبِنا المُحتاجِ إلى مَعونَةٍ، وإلى خِدمَةِ شبابِنا الذينَ يَسْعَونَ إلى بِناءِ مُستَقبَلِهِم، وشُيوخِنا لِكَي يَقضُوا بقيَّةَ حَياتِهُم بسعادةٍ وهناء، وَأيتامِنا أيضًا، لكي يَنْمُوا في جَوٍّ مِنَ الحَنانِ والعَطْفِ وَالاِستِقرار. فَلَيسَ الهَدَفُ مِن استِثمارِ مُؤَسَّساتِنا تَحقيقَ الرِّبحِ المادّيِّ والنُّموِّ الاقتصاديِّ، بَلْ هُوَ هَدَفٌ رُوحِيٌّ، أَلا وَهُوَ خِدمَةُ القريب.


اليومَ، أَكثَرَ مِنَ السَّابِق، تُضْطَهَدُ شَخصِيَّةُ الإنسانِ تَحتَ ضَغطِ الظُّروفِ والمُصارَعاتِ والمَصالِحِ الاقتصاديَّةِ والتِّجاراتِ العالميَّة، والتَّطورِ التِّكنولوجيّ. اليومَ يُعامَلُ الإنسانُ كآلَةٍ لا كشَخص، وهَذَا ما يَزِيْدُ أتعابَهُ الرُّوحيَّةَ وَمَشَاكِلَهُ الأخلاقيَّة، لأنَّ الحياةَ الاجتماعيَّةَ أَصبَحَتْ في العُمِقِ انعزاليَّة.


فَعَلَينَا إذاً أَنْ نُقَدِّم رُؤية صَحيحةً في استِخدَامِ شؤون هذا العالَمِ وما يَخُصُّه، وذَلِكَ بَأَنْ نَعمَلَ على تحسِينِ إدارَةِ أملاكِ الكُرسِيِّ البَطْرِيَركِيِّ وَأَوقافِهِ حَيثُما وُجِدَتْ، وَتَطويرِ استِثمارِها، وَأَنْ نَحفَظَ كَافَّةَ المُمْتَلَكاتِ والعِقارَاتِ ضِمْنَ إِطارِ قَوانِينِنَا الكَنسيَّة، بحيثُ تكونُ سِياسَاتُ إِدارَتِهَا مُنسجمةً مَعَ تَطلُّعاتِ الكَنيسَةِ وخيرِ المُجتَمَع.


وَلِكَي تَكونَ مُؤَسَّساتُنا الخيريَّة، والتَّعليمية، والتَّربَويَّة، والاستشفائيَّة وغيرها، مُشِعَّةً تعكسُ النُّورَ الإِلَهيَّ الحاضِرَ فيها دَومَاً، يَجبُ أَنْ تَسْعى كُلُّ واحِدَةٍ مِنْها، صغيرةً كانَتْ أم كبيرة، إلى أَنْ تَكونَ لَها رُؤيَةٌ واضِحَةٌ لخدمَتِها، مُحَدِّدَةً الهدَفَ مِنْ وجودها، وأَنْ تَكونَ لَها خِطَّةَ عَمَلٍ واضِحَةٌ، تُوصِلُ إلى الهدَفِ المَرجُوِّ مِنْهَا، وَفْقَ أُسلوبٍ وتنظيمٍ مَدروسٍ وَمُبَرمَج، يَعملُ مِن خِلالِ أشخاصٍ متخصِّصين، بعدَ القيامِ بالدِّراسات اللاَّزمة، وتجميعِ الأفكارِ والبَياناتِ والمَعلومات، وتحليلِها، وتفسيرِها، وَبَلْوَرَتِها في مَنهَجٍ واحِدٍ يَخدُمُ الجميع، لكي نكونَ حَسَبَ قَولِ الرّسول: "انظُرُوا كيفَ تَسلُكُونَ بِتَدقيقٍ لا كَجُهَلاءَ بَل كَحُكَمَاء" (أف 15:5).

4- كهنوتٌ مَسؤُول:

الكهنوتُ كَرامةٌ عظيمةٌ لا يستحقُّها إنسان، بل يتفضّلُ اللهُ بها على البشرِ، وذلك بفضلِ غزارةِ محبَّتِه. إِنَّهُ دَعوةٌ إلهيّةٌ نتشرّفُ نحن البشرَ بالمشاركةِ بها مِن خلالِ مَواهبَ سَكَبَها علينا. وما مشاركتُنا هذه إلاّ التزامٌ في خدمةِ شعبِ الله، وعملُ إيمانٍ، وتعبُ محبّةٍ، وصَبْرُ رجاءٍ.


مِن هُنا تأتي الحاجةُ إلى تَهيِئَةِ رُعاةٍ غَيارى في المحبّة، سَبّاقين إلى الخِدمة، وملتزمِينَ الْتِزامًا يَليقُ بِسُمُوِّ هذا التّكليفِ الإلهيّ.  لذا نَعِي ما للتّنشئةِ الكهنوتيّةِ مِن أهمّيّةٍ لِتَستَقيمَ هذه الخدمة، وما لِمَعهَدِ القدّيسِ يُوحنّا الدّمشقيِّ اللاهوتيِّ مِن دَورٍ رِياديٍّ في هذا المجال. لكن وحتّى لا يَبدُوَ أنّ مَفهومَ التّنشئةِ هذه محصورٌ في الاِهتمامِ بالمعرفةِ اللاهوتيّةِ النّظريّة، نحن نُدرِكُ أهمّيّةَ مُساعَدَةِ هؤلاءِ الكَهَنَةِ في إتمامِ السَّعيِ وإنجاحِ العمل، وذلك مِن خلالِ إيجاد الأُطُرِ الضّروريّةِ لِتَبَنِّيهِم، ومُتابَعَتِهم، ومُسانَدَتِهم واحتِضانِهم وتأمينِ الحياةِ الكريمةِ لَهُم، كما لِتَدريبِهم وتَهيِئَتِهم قبلَ انطِلاقِهِم إلى حقلِ الرِّعاية، مُزَوِّدِينَ إيّاهُمْ بِكُلِّ الخِبراتِ اللازمةِ لإتمامِ خِدمَتِهِم. بهذا نَحُثُّهم على التّفاني والتَّكَرُّسِ الكاملِ لِخِدمةِ الرّبِّ على مَذبَحِهِ المُقَدَّس، وعلى مَذبَحِ القريب.


وهذا لن يتحقَّقَ إلاّ عندما تَتَضافَرُ جُهُودُ الرّاعي مَعَ جُهُودِ الرّعيّة، إذ يُؤَلِّفُ الجميعُ معًا شعبَ اللهِ المَواهِبِيَّ والجسدَ الواحدَ الّذي تتكامَلُ فيه وظائفُ الأعضاءِ كُلِّها. عندَها يَتَفانى الرّاعي في خدمةِ الرّعيّة، بينما تُسَخِّرُ الرّعيّةُ كُلَّ إمكاناتِها في تحقيقِ تكاتُفِ أعضائِها واحتِضانِها لِراعِيها. حينئذٍ فقط يَبرُزُ وَجْهُ المسيحِ في المَحَبَّة، فَيَرى النّاسُ أعمالَنا الصّالحةَ وَيُمَجِّدُونَ أبانا الّذي في السّماوات، فنَكُونُ شُهودًا حقيقيِّينَ للمسيح.

5- المحبَّةُ والرِّعاية:

"لأنَّكُم أنتُمْ مَجدُنا وفَرَحُنا" (1 تس 20:2).
"أتحِبُّني؟ فقالَ: يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، أنْتَ تَعْلَمُ أَنّيْ أُحِبُّكَ حُبّاً شَديْداً. فَقَالَ لَهُ: إرعَ خرافي" (يو 17:21). كما سألَ بُطرُسَ الرَّسُولَ، يَسألُ يَسُوعُ كُلَّ واحدٍ مِنّا: يا بُنَيَّ أَتُحِبُّنِي؟ هُوَ واقفٌ أمامَ بابِ قَلبِنا مُنتَظِرًا محبّتَنا. هَل نستجيب؟ أم نَغفُلُ عن فَتحِ أَبوابِ القَلبِ لِكَثرةِ الاِنشغالاتِ والأوساخِ الّتي تملأُ بيتَ النّفس؟ أمّا إذا قلنا: "نَعم نُحِبُّكَ، لكنْ أَعِن نَقصَ مَحَبَّتِنا"، وَقُمْنا بِفَتْحِ الباب، فَسَيَقُولُ لَنا الرَّبُّ حتمًا: "إرعَوا خِرافي". يؤكّدُ الرّبُّ إذًا أنْ لا رِعايةَ بِدُونِ مَحبّة، وأنّ المحبّةَ تأتي أوّلاً، لأنّ الحياةَ المسيحيّةَ قصّةُ حُبّ. والمحبّةُ هِيَ أُمُّ الإيمانِ وَعَلامَتُهُ الفارِقة، كما أنَّها أُمُّ كُلِّ الفَضائل، وَهِيَ أعظَمُ، يقولُ الآباءُ، مِنَ المَعرِفَة، وحتّى مِنَ الصّلاة. مَن أَحَبَّ خَدَمَ، وَبَذَلَ ذاتَهُ مِن أجلِ مُحِبِّيه، بِاحترامٍ كُلِّيٍّ لِمَواهِبِهِمْ وَطاقاتِهِم. وهذه بالضّبطِ هِيَ سِماتُ الرِّعايَةِ الحَسَنة، على غِرارِ الرّاعي الصّالحِ الوَحيدِ الّذي أعطى حياتَهُ مِن أجلِ خِرافِه. وَتقتَضي المُحافَظَةُ على المَحَبّةِ ضَرُورَةَ التَّمَثُّلِ بالمسيح، وَالعَيشِ بِمُوجِبِ أَخلاقِهِ وتَعاليمِه، والمُواظَبَةِ "على تَعليمِ الرُّسُل، وَالشَّرِكَة، وَكَسْرِ الخُبزِ وَالصَّلَوات" (أع 42:2). هذه هي الرِّعايَةُ الّتي علينا أنْ نُحَقِّقَها في أوساطِنا الكَنَسِيَّةِ جَميعًا. وهكذا يجبُ أنْ يَكُونَ الرُّعاة، مُشَجِّعِينَ المُشارَكَةَ بين الكَهَنَةِ والعِلمانِيّينَ في مَجالسِ الخِدمةِ المَنصُوصِ عنها في قَوانينِنا وَأنظِمَتِنا الّتي لا بُدَّ مِن تطبيقِها مِن أجلِ شَرِكَةٍ وَخِدمَةٍ أَفضَل.

أ- التّنشِئةُ المسيحيّةُ وَتَنمِيَةُ الوَعْيِ الدِّينِيّ:
علينا تقديمُ التَّشجيعِ والرِّعايَةِ لِكلّ مَن يعملون، مِن كَهَنَةٍ وَعِلْمانِيِّين، لِنَقْلِ شُعلَةِ الإيمانِ إلى الأجيالِ الصّاعدة، و إلى أَيّةٍ فئةٍ عُمْرِيّة. وَيَجدُرُ بِنا أَنْ نُذَكِّرَهُمْ بِأَنّهُمْ مَدْعُوُّونَ إلى نَقْلِ شَخصِ المسيحِ مِنْ خِلالِ تَعالِيمِهِ وَمِنْ خِلالِ حَياتِهِمْ فِيه، لا عَن طَريقِ الأقوالِ وَحَسْب. يَدُلُّنا يَسُوعُ، الّذي هُوَ "الطّريقُ"، على الدُّرُوبِ الّتي تَقُودُ إليه، وَتُساعِدُنا خِبرَةُ الكَنيسةِ الطَّويلَةُ على تَحديدِ الأماكِن الّتي يُمكِنُنا إيجادُهُ فِيها. لا يُمكِنُ السَّيرُ في هذه الدُّرُوبِ بِدُونِ تَوبَةٍ وَتَغيِيرِ ذِهن، وَمُمارَسَةٍ واعِيَةٍ لأسرارِ الكنيسة، وَلِقاءٍ وُجُودِيٍّ مَعَ كلمةِ الله في كتابِهِ المُقَدَّس، وَسَهَرٍ دائمٍ على ذِكرِ اسْمِهِ في الصّلاة، وَوَعْيٍ دائمٍ لِوُجُودِهِ مَعَنا في إِخْوَتِهِ الّذينَ ارتَضى أنْ يَسكُنَ فِيهِم.


أمامنا جَهْدٌ كَبيرٌ لِتَقوِيمِ بَرامِجِ التّنشئةِ الدّينيّةِ عِندَنا، كَيْ تُقارِبَ مَشاكِلَ اليَوم، وَتَستَعمِلَ لُغَةً وَأساليبَ تربويّةً يَفهَمُها النّاسُ ويَتفاعَلُونَ معَها.

ب- رِعايَةُ الشَّباب:
الشُّبّانُ والشّابّاتُ هُم غِنى الكنيسة. علينا، كما قال الرَّسُولُ بولس لتيموثاوس، حَثُّهُم على ألاّ يَدَعُوا أَحَدًا "يَسْتَخِفُّ بِحَداثَتِهِم" (1تي 12:4)، بل "أن يَكُونُوا قُدْوَةً في المَحَبّةِ" والخِدمة. علينا أن نُقَوِّيَ طاقاتِهم في خِدمةِ إخوَتِهِم والكنيسة، بِجِدِّيَّةٍ وتَضحيةٍ وَالْتِزام. أَحَبَّ يَسُوعُ الشّابَّ الغَنِيّ، فَطلب منه الكثير، وَكُلُّ شابٍّ هُوَ غَنِيٌّ بِطُمُوحِهِ وَمَواهِبِه. فَلْنَرْعَ شَبابَنا وَنُؤَمِّنْ لَهُمُ السُّبُلَ العَمَلِيّةَ لِتَسهيلِ القِيامِ بِشَهادَتِهم. وَلْنَطْلُبْ مِنهُمُ الكَثيرَ بعدَ ذلك. وَلْنَسْهَرْ على أَنْ يَكُونَ لَهُمْ وَلِسِواهُمْ مِنْ أَبناءِ الرَّعِيَّةِ مَراكِزُ لِلاِجتماعاتِ والمؤتَمَرات. وَلْنَدْعُ إلى انفِتاحِ الشّبابِ الأنطاكيِّ على بَعضِهِ البَعض، في المَدى الأنطاكيّ، لِيَكُونَ علامةً بَهِيَّةً على وَحْدَةِ كُرْسِيِّنا.

ج- رِعايَةُ المرأة:
لدى المرأةِ مَواهبُ عديدةٌ وخاصّةٌ، علينا تَثميرُها، وتَجنيدُها، على حِدىً وَمَعَ الرِّجال، في الخِدمةِ الرِّعائيّةِ وَالاِجتماعيّة. نَرى في العَهدِ الجديدِ أنَّ نِساءً خَدَمْنَ الكنيسةَ بِطُرُقٍ مختلفة. في الفترةِ الرَّسُولِيّةِ عاشَتِ الجَماعةُ المسيحيّةُ بِمُوجِبِ قَولِ بُولُسَ: "وَلَيْسَ هُنَاكَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنّكُمْ جَمِيعاً واحِدٌ فِيْ المَسيْحِ يَسُوْعَ. فَإِذا كُنْتُمْ للمَسِيْحِ فَأنْتُمْ إذاً نَسْلُ ابراهِيْمَ وَأَنْتُمْ الوَرَثَةُ وِفْقَاً لِلْمَوْعِدِ" (غلا 28:3-29). وقد تَبِعَتْ يَسُوعَ نِساءٌ كَثيراتٌ وَجُلْنَ مَعَهُ في تَجْوالِهِ لِنَشْرِ الكَلِمة. وَنُلاحِظُ في الكتابِ أنَّ بَعْضَهُنَّ قام بِمَهامَّ مختلفة، تَعاوُنًا مَعَ الرُّسُل، وَخِدمةً لِلجماعة. لا بُدَّ لَنا مِن فَتْحِ ورشةِ تفكيرٍ لِتشجيعِ انخِراطِ النِّساءِ في العَملِ التّبشيريِّ والخَدَماتيّ، وَاستشارتِهِنَّ بِكُلِّ ما يَخُصُّ أُمورَ البِيعة. وعلينا ابتكارُ أساليبَ جديدةٍ لِتَرسِيخِ خِدمَتِهِنّ، ومنها الأخويّاتُ العامِلَةُ في العالَم، والرَّهبَنَةُ، والنَّشاطاتُ التّعليميّةُ وَالاِجتماعيّةُ المختلفة.

د- رِعايَةُ الأُسرَة:
نَرَى فِي العَالَمِ النَّزَعاتِ التي تُشَدِّدُ على الفَردِيَّة، والتي تَدْفَعُ الإِنسانَ لأَنْ يَكونَ خَارِجَ حَياةِ الجَماعَة. الكَنِيسَةُ تُؤَكِّدُ أَنَّ الأُسْرَةَ هِيَ الحَجَرُ الأَساسُ فِي بِنَاءِ المُجتَمَعِ البَشَرِيِّ، والتي تَقُومُ عَلَى الشَّرِكَةِ والتَّعاضُدِ بَيْنَ أَفْرادِهَا لِكَي يَجِدَ الإِنسانُ فِيها بُعدَهُ الشَّخصيّ. لِذَلِكَ عَلينَا العملُ للحِفاظِ على الأُسْرَة، والأَخْذِ بِعَينِ الاعتبارِ البرامجَ التَّربوِيَّة، والنّشاطاتِ التي تدعمُها من خلالِ المبادراتِ النّاجحةِ لبعض المراكزِ والتي تهتمُّ بتوعيةِ المُقْدِمِين على الزّواج، مِنْ أجلِ تَهيِئَتِهِمْ نَفسيَّاً وعِلْميَّاً، وَتَزوِيدِهِم بِما أَمْكَنَ مِن الخُبرات، لِكَي يَتَكَلَّلَ مَشروعُ ارتباطِهِم بِتَأْسِيسِ أُسرَةٍ صَحيحَةٍ فِي المُجتَمَع. فالأُسرَةُ النَّاجِحَةُ هِي الضَّمانُ الأَساسُ لِتَربِيَةِ أَطفالِنَا وَتَهذيبِ أَحْدَاثِنَا، وَتَوعِيَةِ شَبابِنَا، وعيشِ خُبراتِ الشَّرِكَةِ المسيحيَّةِ فيما بينها.

هـ - رِعايَةُ الفُقَراء:
"جُعْتُ فأطعَمتُمُوني، وَعَطِشْتُ فَسَقَيتُمُوني، وَكُنْتُ غَريبًا فآوَيتُمُوني، وَعُريانًا فَكَسَوتُمُوني، وَمَريضًا فَعُدْتُمُوني، وَمَحبُوسًا فأتَيتُمْ إلَيّ" (مت 35:25-36).


علينا أن نَعتادَ البَحثَ عَنِ المسيحِ في كُلِّ كائنٍ بَشَرِيّ. لأنَّ كُلُّ إنسانٍ يَضَعُهُ الله على دَرْبِنا إِنَّما هُوَ "قَريبُنا"، وَمِنْ خِلالِهِ أيضًا يَعرِضُ المسيحُ نفسَهُ علَينا. أينَ نحنُ مِن مِثلِ هذا الاهتمام؟ ما هِيَ حِصَّةُ الفقيرِ في مُمتَلَكاتِنا؟ أسئلةٌ لا بُدَّ لِكُلِّ واحد منّا أن يَطرَحَها على ضَميرِهِ أوّلاً، ثُمَّ على رَعِيَّتِهِ والأبرشيّةِ الّتي يَعيشُ في ظِلالِ رِعايَتِها.

و - رِعايَةُ ذَوِي الحاجاتِ الخاصّة:
لا يَعرِفُ مُعظَمُ أبنائنا أنّ بَعضًا من شَبابِنا يَهتَمُّ، في أكثرَ مِنْ أبرشيّة، بِالصُّمِّ وَالبُكْمِ والمكفوفين وغيرهم من ذوي الحاجات الخاصة الأخرى، وَيَشْمُلُونَهُمْ في مشاريعِ التّنشئةِ المسيحيّة. وهذا عَمَلٌ طَلِيعِيٌّ، علَينا المُساهَمَةُ في دَعْمِهِ ونَشرِهِ في سائرِ الأبرشيّاتِ؛ لأنَّ ظاهرةَ بُرُوزِ ذَوِي الحاجاتِ الخاصّة تَتَفاقَمُ يَومًا فَيَومًا. لا يُمكِنُنا أنْ نَنسى الذين يَحتاجُونَ إلى العنايةِ قَبلَ سِواهُم. وأَنْ نَجَعْلَ سائرَ أبنائِنا يَتَحَسَّسُونَ أهميَّتَها وَيُساعِدُونَ في تحقيقِها.

ز- مَعرِفَةُ واقعِ رَعايانا والاهتمامُ بها:
ثَمَّةَ في هذه الآوِنَةِ لَغْطٌ حولَ مَفهومِ الكنيسةِ وَمَفهُومِ الطائفة. ولقد بَرَزَتْ هيئاتٌ مختلفةٌ تتكلّمُ بِاسمِ الأرثوذكس. نحن نَتَفَهَّمُ الشُّعورَ وَالهَمَّ اللَّذَينِ يَقِفانِ وَراءَ مِثلِ هذه المُبادَرات، وَنُقَدِّرُ الغِيرةَ على المُطالَبَةِ بِحُقُوقِ أبنائِنا. ولكنْ، يَجِبُ أن نؤكّدَ أنّنا كنيسةٌ وَلَسْنا مُجَرَّدَ طائفةٍ بَينَ سائرِ الطّوائف. الكنيسةُ تَشمُلُ الطّائفةَ ولا تُنكِرُها، بل تَحتَضِنُها. يَلزَمُنا انفِتاحٌ مُتَجَدِّدٌ على شُؤونِ هذه الجماعةِ الطَّيِّبةِ الّتي تُؤَلِّفُ نَسيجَ كنيستِنا الاِجتماعيّ، لِسَماعِها، وَالتَّحاوُرِ مَعَها، والوُقُوفِ عندَ حاجاتِها، والمُثابَرَةِ على مسؤوليَّتِنا لِقِيادَتِها إلى الرّبّ.


لقد سَبَّبَتْ حَرَكَةُ التَّنَقُّلِ السُّكّانِيِّ لأَسبابٍ مختلفة، في العُقُودِ الأخيرةِ في لبنان والعراق، والآنَ في سوريا، كما الهِجرَةُ منها إلى بِلادِ الاِنتشار، تَغَيُّرًا مَلحُوظًا في وَضْعِ مُعظَمِ أبرشِيّاتِنا الدّيمُوغرافيّ. لا بدّ لنا مِنْ رَصْدِ هذه الظّاهرةِ بِدِقَّةٍ عَبْرَ إحصاءاتٍ عِلميّة، تُرشِدُنا إلى مَحَلِّ إقامةِ أبنائنا الحقيقيّة، والاِستِماعِ إلى آرائِهِمْ وَتَطَلُّعاتِهِم، وَذَلِكَ بالتَّعاوُنِ مَعَ إِخوَتِنا مَطَارِنَةِ تِلْكَ الأبرشيَّات، ومتى فَعَلْنا ذلك، يَتَسَنّى لَنا أنْ نُطَوِّرَ برامِجَنا الرِّعائيّةَ وَنَبْنِيَ كنائسَنا وَمَراكِزَنا الاِجتماعيّةَ والخَدَماتيّة.

أيّها الأحبّاء،
أنْ نَكُونَ خُدّامًا، هذا ما طَلَبَهُ الله مِنّا، وأعطانا المَثَلَ لَمّا غَسَلَ أَرْجُلَ تَلامِيذِه، مُعَلِّمًا إيّانا كيفَ يَكُونُ واحِدُنا "الأوّلَ" ضِمنَ جَماعةِ المحبّة. كَما أَوصانا، على ما جاءَ في إنجيلِ يوحنّا، أن نكون "واحدًا" كما هُوَ والآبُ واحد (يو 17: 11). خِدمَتُنا بينَكُم تَستقيمُ بِشَكلٍ أَفْعَلَ متى ارتَبَطَتْ بِمَفهُومِ الشَّرِكَةِ الّتي تَجمعُنا على كُلِّ صعيد. طبعًا، نحن نؤمنُ أنَّ لِهذهِ الشَّرِكَةِ بُعْدًا أسرارِيًّا يَنطَلِقُ مِن سِرِّ الشُّكر، لكِنّها تُعَبِّرُ عن نفسِها أيضًا بالأعمالِ الّتي تُجَسِّدُ هذه الشَّرِكَةَ في حَياةِ الجَماعةِ الدّاخليّةِ مِن جِهة، وفي شَهادتِها لِلعالَمِ مِن جِهَةٍ أُخرى.

6- تَنْمِيَةُ الحَياةِ الرّهبانيّةِ في الأديار:

"إفرحوا كلَّ حينٍ، صَلُّوا بِلا انقِطاع، وَاشْكُرُوا على كُلِّ شَيء" (1 تس 16:5-18).


إنَّ الرّهبنةَ هِيَ في الواقعِ عَودَةٌ إلى حَياةِ الجَماعَةِ المسيحيّةِ الأُولى، في المُواظَبَةِ على الصَّلاةِ والمُشارَكَةِ في المقتَنَياتِ والتَّحَرُّرِ مِنَ الأهواءِ وَمِن كُلِّ شَيء، لِلاِنْصِياعِ الكُلِّيِّ  لِتَعالِيمِ المسيح، وَتَطبيقِها كَما هِيَ وَبِكُلِّ بَساطة. وَبِخاصَّةٍ قَولَةُ الرَّبِّ لِلشّابِّ الغَنِيّ: "إِنْ كُنتَ تُرِيدُ أنْ تَكُونَ كاملاً، فَاذْهَبْ وَبِعْ كُلَّ شَيءْ لَكَ، وَأَعْطِهِ لِلمَساكِينِ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ في السَّماءِ، وَتَعالَ اتْبَعْنِي" (مت 21:19؛ مر 21:10؛ لو 22:18). وبعدَ أَنِ اضْمَحَلَّتْ غالِبًا رَهْبَناتُ الكُرسِيِّ الأنطاكيّ، الّذي شَهِدَ في القَدِيمِ انْطِلاقَةَ الحَياةِ الرُّهبانِيّة، أعطانا الله في العُقُودِ الأخيرةِ مِنَ السِّنين استِعادَتَها في أكثرَ مِن دَير. هَمُّنا أنْ نُنَمِّيَ هذا النَّمَطَ مِنَ العَيشِ في كُلِّ مُتَطَلِّباتِهِ وَأُصُولِه، لِكَي يُصبِحَ الرُّهبانُ والرّاهِباتُ أَمثِلَةً حَيّةً لِلحَياةِ في المسيح، يُذَكِّرُونَ أهلَ العالَمِ بِمُقتَضَياتِ هذه الحياة، وَيَحمِلُونَهُم والعالَمَ في صَلَواتِهِمِ المُتَواصِلة، مُقَدِّمِينَ إيّاهُم إلى عَرشِ الله.

7- كرسيُّنا الأنطاكيُّ واحدٌ مُتَّحِد:

على صعيدِ حَياتِنا الدّاخليّة، يُشَكِّلُ المجمعُ الأنطاكيُّ المُقَدَّسُ رَمزَ الوَحْدَةِ الأنطاكيّة. وَهُوَ، مُجْتَمِعًا، يَسْهَرُ على أنْ يَسيرَ العملُ في كافّةِ أبرشيّاتِنا "بِلِياقةٍ وتَرتيب"، وعلى مِقدارِ ما يَتَطَلَّبُهُ الله مِنّا كَخُدّامٍ لِكَلِمَتِه. لذلك فالمجمعُ المقدَّس، بِوَحدَتِه، هُوَ مَكانُ الشُّورى الأَرْحَب، والمكانُ الّذي يَتِمُّ فيه الْتِقاطُ المَواهِبِ المُوَزَّعَةِ على المؤمنينَ لِلاِستفادةِ منها إلى أقصى حدّ. يَعيشُ المجمعُ المُقَدَّسُ حقيقةَ محبّةِ الآباءِ لِلبَنِين، بِتَأمينِ التَّواصُلِ ضِمنَ الجَماعةِ الكَنَسِيّة، وَهُوَ بِسَبَبِ هذه المحبّةِ الّتي تَجمَعُ أعضاءَهُ، يَسألُ وَيُسائِلُ كَي تستقيمَ كُلُّ خِدمةٍ، بَعيدًا عَنْ أيّةِ مُحاباةٍ لِلوُجُوه.


فَلَنْ نُوَفِّرَ جَهدًا حَتّى يَشعُرَ كُلُّ مُؤمِنٍ أنَّ الكنيسةَ جاهزةٌ للاِستفادةِ مِن عِلْمِه، وَمِن خِبرَتِه، وَمِن طاقاتِهِ الإنسانيّةِ في حَياةِ الرعيّة، كما في المَجالِ الكَنَسِيِّ العامّ. مُهمّتُنا، في عالَمِ اليوم، أنْ نُزِيلَ الغُربةَ عندَ المؤمنِ بينَ انتمائِهِ الكَنَسِيِّ وانتمائِهِ إلى عالَمٍ هُوَ مَدْعُوٌّ إلى تقديسِه. فالشّعبُ المؤمن، كَكَهنُوتٍ مُلُوكِيّ، مَدْعُوٌّ إلى هذا العملِ الإلهيِّ الّذي يُبْعِدُ العالَمَ عَنِ الدَّهْرَنَة، وَيُقَرِّبُهُ إلى الله. لذلك سنَعمَلُ لاِستنهاضِ طاقاتِ الأشخاصِ والمؤسَّسات، مِن أجلِ إبرازِ التّجلِّياتِ الّتي سَمَحَ بِها الله، أَكانَ ذلك في مجالِ اللاهوت، أو الفِكر، أو العِلم، أو الأدب، أو الفَنِّ وغيرِها. وما الاِهتِمامُ بِتاريخِ كنيستِنا ومَعالِمِ شَهادَتِها إلا مِن أَجلِ إبرازِ هذه الخُصوصيّاتِ الشّهاديّةِ الّتي لَنا أن نُكْمل.
نحن نُصلّي كَي تَبقى أنطاكية، رُغْمَ الآلامِ الّتي تَمُرُّ بِها اليوم، شاهِدَةً بِواسِطَةِ أبنائِها كُلِّهِم، على أَصالَةِ إيمانِها وعلى تَمَسُّكِها بِفِكرِها التَّجَسُّدِيّ.

8- مُقارَبةٌ لِواقعِنا الأرثوذكسيِّ المُعاصِر:

لَعِبَتْ كَنيسةُ أنطاكيةَ دَورًا بارزًا في التّاريخِ لِتَقريبِ وِجْهاتِ النَّظَر. لذلك، وفي واقعِ الكنائسِ الأرثوذكسيّةِ الحاليّ، سَنَعملُ جاهدِينَ لِيَستَمِرَّ كُرْسِيُّنا الأنطاكيُّ في لَعِبِ دَورِهِ التّاريخيِّ كَجِسْرِ مَحَبَّةٍ وَتَواصُل، حتّى يَسعى الجَميعُ بِرُوحٍ واحدةٍ إلى مَجدِ اللهِ وكنيستِهِ الأرثوذكسيّةِ الواحدةِ، المقدّسةِ، الجامعةِ، الرّسوليّة. وَسَنَدعَمُ في هذا المجالِ كافّةَ الجُهُودِ الّتي تُبذَلُ لِلوُصُولِ إلى "المجمعِ الأرثوذكسيِّ الكبيرِ المُقَدَّس"، الّذي سَيَكُون، إنْ تَحقَّقَ، حَدَثًا تاريخيًّا.


في هذا السِّياق، وَانطِلاقًا مِمّا يُمكِنُ أن يُقدِّمَهُ مَعهدُ القدّيسِ يوحنّا الدّمشقيِّ اللاهوتيّ، وَجامعةُ البَلَمند، ومراكزُ أبحاثٍ أُخرى، سَنَسعى إلى بَلْوَرَةِ تَوَجُّهاتٍ أرثوذكسيّةٍ تُجاهَ أُمُورٍ تَشْغَلُ الإنسانَ المُعاصِر، كَتِقاناتِ الهَندَسَةِ الوِراثِيّة، والاِستِنساخ، وغيرِها مِنَ المواضيعِ الشّائكة. وعلَينا مسؤوليّةُ التّحاوُرِ حَولَها معَ إخوتِنا في الكنائسِ الأرثوذكسيّةِ الأُخرى، بُغْيَةَ الوُصولِ إلى مُقارَبَةٍ أرثوذكسيّةٍ مُوَحَّدَةٍ تُجاهَ هذه التَّحَدِّيات، تُنيرُ مَسارَ أبنائِنا في عالَمٍ يَطرَحُ عَلَيهِمْ بِاستِمرارٍ أسئلةً مصيريّة. وَلا شَكَّ في أَنَّ العالَمَ المسيحيَّ بأسرِهِ يَنتظِرُ مثلَ هذه المَواقفِ، نَظَرًا لِلأهميّةِ الّتي يُعطِيها لِلفِكرِ الأرثوذكسيّ، لاِرتباطِهِ الوَثيقِ بِفِكرِ الكنيسةِ الأُولى ولاهوتِها.

9- نحو وَحْدَةٍ أَسرارِيَّةٍ كامِلَةٍ بينَ المَسيحيِّين:

نحن، كأنطاكيِّينَ، واعُونَ لأَلَمِ الجُرحِ الّذي يُشَكِّلُهُ في جَسَدِ المسيحِ الاِنقسامُ القائمُ بينَ المؤمنين. هذا ما جعلَ الكنيسةَ الأنطاكيّةَ تُشارِكُ، بِمُثابَرَةٍ، مُنذُ عَشَراتِ السِّنِين، في كُلِّ مَسعًى حِوارِيٍّ لِتَخَطِّي الضُّعُفاتِ البَشَرِيَّةِ الّتي تُعِيقُ عَودَةَ الْتِحامِ المسيحيّين. وَسَنَبقى أَمِينِينَ لِهذا الخَطِّ الّذي اتَّبَعَهُ أسْلافِي. وَإِنِّي لأُشَدِّدُ على أهمّيّةِ المحافَظَةِ المُطلَقَةِ على الاِحترامِ المُتَبادَلِ بينَ الكنائس، بَعيدًا عن كُلِّ مَنحًى تَرَفُّعِيٍّ، أو تَكفِيرِيٍّ، أَوِ اقْتِناصِيّ. وَقناعَتِي راسِخَةٌ أنّ استِقامَةَ الرّأي، الّتي تُشَكِّلُ أساسَ كُلِّ تَعامُلٍ بينَنا وبينَ الكنائسِ الأُخرى، هِيَ عامِلُ جَمْعٍ ولَيسَتْ عامِلَ تَفْرِقة، وأَنَّ تَمَسُّكَنا بِها هُوَ السَّبيلُ إلى الاِنطِلاق، بِمَحَبَّةٍ وَتَواضُع، مِنْ قَواسِمَ مُشتَرَكَةٍ تَجمَعُنا، مُعتَبِرِينَ أنَّ الاِختِلافَ حَولَ ما هُوَ خارجَ جَوهَرِ الإيمان، يَبقى غِنًى في التَّنَوُّع، وَلَيسَ مِن شَأنِهِ أنْ يُصَدِّعَ الْتِصاقَنا الواحدَ بالمسيح.


مِن هذا القَبِيلِ نَرجو أنْ تُسْتكمَلَ كُلُّ الخُطُواتِ الّتي مِن شَأنِها أنْ تُؤَدِّيَ إلى وَحْدَةٍ أسراريّةٍ كاملةٍ معَ إخوَتِنا في الكنائسِ الشَّرقيّةِ اللاخَلقِيدُونيّة، بِناءً على ما تَمَّ التَّوَصُّلُ إليهِ في Chambésy، كَنتيجةٍ إيجابيّةٍ لِلمسعى الحِواريِّ الطَّويلِ الّذي قامَ بَينَنا. نَكُونُ بذلك قد قَدَّمْنا نَمُوذَجًا حَيًّا عَن مِصداقِيّةِ مَساعِينا نَحوَ الوَحدَة، شاهِدِينَ لأَمانَتِنا لِلسَّيِّدِ في العالَم. كَما نُؤَكِّدُ في هذه المناسبة، على  مُثابَرَتِنا في كُلِّ الحِواراتِ الّتي تَجري بَينَ مُختَلِفِ الكنائس الشرقية منها والغربية، ساعِينَ إلى نَقْلِ مَحَبَّتِنا أَوّلاً، وَاسْتِعدادِنا غَيرِ المَحدُودِ، لِلسَّعيِ المشترَكِ في إظهارِ بَهاءِ وَجهِ العَرُوس، أَيِ الكنيسة. وهنا لا بُدَّ مِنْ أنْ نَذْكُرَ وَنُثَمِّنَ أَهمّيّةَ الشّهادةِ الحَيّةِ الّتي يُمكِنُ أنْ نُقَدِّمَها كَمسيحيِّينَ بِتَرجَمَةٍ واحدةٍ لِلمحبّةِ الّتي نَحمِلُ إلى العالَمِ بِاسمِ يَسُوعَ المسيح. كما نَدعُو إلى التّشاوُرِ فيما بَينَنا، كَكَنائِسَ مسيحيّةٍ، حَولَ مُختَلِفِ الأُمُورِ الّتي يَطرَحُها عَلَينا العالَمُ المُعاصِر، ساعِينَ ما أَمْكَنَ إلى التّشديدِ على الأُمُورِ الّتي تَجمَعُنا وَالّتي تُشَكِّلُ القَواسِمَ المُشتَرَكَةَ الّتي يُمكِنُ أنْ نُقَدِّمَها إلى إنسانِ اليَوم، كَتَعزِيَةٍ مِن لَدُنِ الرَّبّ.

10- حِوِارُ الأَدْيان:

ما نَسُوقُهُ اليَومَ عَن عَلاقَتِنا مَعَ الكنائسِ المسيحيّةِ الأُخرى، يَصُحُّ إلى حَدٍّ كبيرٍ عَنْ علاقاتِنا مَعَ الأديانِ الأُخرى، خاصَّةً وأننا دَخَلنا في زَمَنٍ تُسْتَعْمَلُ فيه الأديانُ لِتَصنيفِ البَشَرِ وَزَرْعِ الخِلافِ والتَّفرِقَةِ فِيما بَينَهُم. تاريخُنا في أنطاكية مَلِيءٌ بِأمثِلَةٍ تَدُلُّ على رَفضِنا المُطلَقِ لِهذا النَّهْجِ وَلاِنعِكاساتِهِ على العلاقاتِ بَينَ الأديان، كما على علاقةِ المُواطِنِينَ في البَلَدِ الواحد. نحنُ عَبَّرْنا، كَكَنيسةٍ أنطاكيّة، وَمُنذُ قُرُون، عَنْ كَونِنا جماعةً تَقُولُ بِالعيشِ المُشترَكِ وَتَحْياهُ إلى أقصى حَدّ؛ لأنَّ الإنسانَ هُوَ مَحَطُّ اهْتِمامِ الأديان، وَلِهذِهِ أنْ تُغَذِّيَ عِندَهُ التَّوقَ إلى مَحَبّةِ الآخَرِ ولَيسَ فقط إلى قَبُولِه، إلى خِدمةِ الآخَرِ وَلَيسَ فقط إلى أَخْذِ العِلْمِ بِوُجُودِه.


من هنا أنَّ كنيستَنا اليوم، كَما في الماضي، تَقولُ بِمُتابَعَةِ مَسيرةِ الحِوارِ مع الجميع، على أساسِ الاِحترامِ المُتَبادَل، وَالمُساواة، والقَبُولِ الرَّحْبِ بالاِختلاف. نحن، كَكَنيسةٍ مُتَجَذِّرَةٍ في هذا المَشْرِق، نَنبُذُ الاِنغِلاقَ وأنواعَ التَّقَوقُعِ كافّةً. نحنُ نَقُولُ بالاِنفتاحِ وَالاِشتراكِ معَ إخوتِنا في المُواطَنَةِ بِكُلِّ الهَواجِسِ الّتي تَهُمُّ أَوطانَنا، لأنّ ما يَجمَعُنا كثير.
يَضُرُّنا جميعًا الجَهلُ الّذي عندَ كُلِّ واحِدٍ مِنّا عَنِ الآخَر، أَوِ الصُّورَةُ المَغلُوطَةُ الّتي يَحلُو لِلبَعضِ أنْ يُقَدِّمَها عنِ هذا الآخَر. لذلك، فنحنُ نَدعو إلى معرفةٍ مُتبادَلَةٍ قائمةٍ على العِلْم، وعلى المَوضُوعيّة، لِتَبديدِ الزَّيَفِ الّذي يُهَيمِنُ، أحيانًا، على الأذهان. ولا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ إلى عَيشِ المَحبّةِ، لأنّها السَّبيلُ الأفضلُ لِتَخَطِّي التَّجاهُلِ الّذي يُوَلِّدُ الكَراهية. الإنسانُ في مَشْرِقِنا اليَومَ بِحاجَةٍ إلى كُلِّ القِوى الخَيِّرَةِ كَي تَضَعَ نَفسَها بِتَصَرُّفِه، مِن جَرّاءِ ما يُعاني مِن قَهْرٍ وَعَذاب. وهذا داعٍ يُوجِبُ علَينا وَضْعَ اليَدِ بِاليَد، مهما كان انتماؤنا الدّينيّ، لِنَنْكَبَّ على الأعمالِ ذاتِ الطّابَعِ الإنسانيِّ بِهِمَّةٍ واحدة، راجِينَ مِنَ الله أنْ يَمسحَ عَن وُجُوهِ المُعَذَّبِينَ كُلَّ دَمْعَة، وَأنْ يَسْكُبَ علينا نِعَمَهُ كَعَبِيدٍ أُمَناء، فَنَنْعَمَ بِلِقاءٍ في المَحبّةِ يُبْعِدُنا عَنِ الحَذَرِ الّذي يَخلُقُهُ الجَهْل.


وَلا بُدَّ هُنا مِنَ التّأكيدِ على أنّ لإِخوَتِنا المُسلِمِين، شُرَكائِنا في المُواطَنَة، مَوقِعًا خاصّاً في قَلْبِنا وَفي فِكرِنا. فَعَلاقَتُنا بِهِم تَتَخطّى مُجَرَّدَ التَّعايُشِ المُسالِم. مَعَهُم نَقتَسِمُ كُلَّ الهُمُومِ الّتي تُرافِقُ نُمُوَّ أَوطانِنا، وَراحةَ الإنسانِ فيها وَطُمَأنِينَتَه. مَعَهُمْ نَبنِي مُستقبلَ أَولادِنا المُشترَك، وَمَعَهُمْ نُجابِهُ الأخطارَ المُحدِقَةَ بِنا. سَنَعمَلُ جاهِدِينَ على نَبْذِ كُلِّ رُوحٍ فِئَوِيَّةٍ أو تَرَفُّعِيَّةٍ مِن شَأنِها أنْ تَضُرَّ بِوُجُودِنا المُشتَرَكِ على هذه الأرض، وَتُقَلِّلَ مِنْ فُرَصِ خِدمَتِنا لَها. كَما سَنَعمَلُ بإخلاصٍ في سبيلِ التَّخَلُّصِ مِنْ جَهْلِ بِعضِنا بَعضًا، عَبْرَ تَقْوِيَةِ سُبُلِ اللقاءِ البَنّاء، طالبِينَ مِنَ اللهِ أنْ يُنعِمَ علينا جَميعًا بِرُوحِ الأُلْفَةِ الّتي تَجمَعُ، لِما فِيهِ خَيرُ إنسانِ هذه البلاد.

11- حضورٌ مسؤولٌ على صعيدِ الإنسانِ والمجتمع:

تَحيا الأديانُ اليومَ في مجتمعٍ تَعَدُّدِيٍّ قَلَّصَتِ التِّقانَةُ الحَديثةُ حُدُودَهُ، وَأَضْحَتْ أبوابُهُ مُشَرَّعَةً على كُلِّ جَديدٍ يَظهَرُ هُنا وَثَمّةَ في العالَم. يَنعكسُ هذا الأمرُ، بِشَكلٍ حَتْمِيٍّ، على رُؤيَتِنا لِلدَّورِ الّذي نحنُ مَدْعُوُّونَ أن نَلعَبَهُ فِيه. نُحنُ كمسيحيِّينَ نَرفُضُ الدَّهْرَنَةَ لأنّها تُغَرِّبُ الكَونَ والعالَمَ عَنْ خالقِهِما. لكِنَّنا نَعتَبِرُ في الوقتِ عَينِهِ أنّنا مَدْعُوُّونَ إلى نَقْلِ مَحَبَّةِ الخالِقِ إلى العالَم، فَنُكْمِلُ بِالخِدمَةِ عَمَلَ هذه المَحَبّة. تَقُومُ رُؤيَتُنا لِلإنسانِ على أنّه مَخلُوقٌ على صُورةِ اللهِ وَمِثالِه، وَمَدْعُوٌّ إلى التّألُّهِ بِسَبَبِ النّعمةِ الّتي انسكبَتْ عليه بِفِعلِ التّجَسُّد. هذه ثَوابِتُ نَقَلَتْها أنطاكيةُ إلى مُحيطِها مُنذُ فَجْرِ المسيحيّة، ونحن اليومَ حَرِيصُونَ على تَثبيتِ هذا الحُضُورِ المجتمَعِيِّ كَجُزْءٍ لا يَتَجَزَّأُ مِنْ عَمَلِنا الكَنَسِيّ.


أُولى الحَلَقاتِ المُجتَمَعِيّةِ الّتي تَهُمُّنا مُباشرةً هِيَ مُجتمعُنا العَرَبِيّ. فنحن هُنا أبناءُ هذا المَشرِق. نحن مُتَجَذِّرُونَ فِيهِ منذُ مَطْلِعِ المسيحيّة: فِيه بَشَّرَ الرُّسُلُ، وَسالَتْ دِماءُ الشُّهَداء، وَعَلَّمَ الآباء. فِيهِ، وَمَعَ غَيرِنا، بَنَينا وَسَنَبني تاريخًا بَشَريًّا مَجِيدًا. انطِلاقًا مِنهُ سَنُساهِمُ في بِناءِ حَضارةٍ عالَمِيّةٍ لا تَتَنَكَّرُ لِلماضي بل تَستفيدُ مِنْ كُنُوزِهِ الثّقافيّةِ لِتُحَضِّرَ المستقبل. نحن الأنطاكيِّينَ جُزءٌ مُكَوِّنٌ لِهذا النّسيجِ المَشْرِقِيّ، وَدَورُنا فِيهِ لا يُقاسُ بِالكَمِّ العَدَدِيّ، بَلْ بالرُّوحانيَّةِ الّتي بِها نَصُوغُ مَعَ غَيرِنا ثَقافةً دِينامِيّةً تَحمِلُ بَصَماتِ هذا المَشرِقِ وَإِرْثَهُ الزّاخِر. نحنُ في مَشْرِقٍ اعْتادَ أنْ يُعطِيَ الجميعَ فُرَصَ الإبداعِ والتّواصُلِ الثّقافِيّ، وسَنَسعى إلى أن يَكُونَ هذا الجَهْدُ النَّوعِيُّ المشترَكُ عُنوانَ الحُضُورِ المَشْرِقِيِّ في الحَضارةِ العالَمِيّة.


نحنُ، كَأنطاكيِّينَ، حَرِيصُونَ على أنْ نَنقُلَ رِسالَةَ المَشْرِقِ الإنسانِيّةَ إلى المُجتمعاتِ الأَرْحَب، دِفاعًا عَن كَرامةِ الإنسان، كُلِّ إنسان. في عصرِ دَهْرَنَةٍ شَيَّأَتِ الإنسانَ وَجَعَلَتْ مِنهُ مُجَرَّدَ كَمٍّ مِنَ الحاجاتِ الاِستِهلاكيّة، نحنُ مُصَمِّمُونَ على العَمَلِ كَي يَسمعَ العالَمُ صَوتَ الأصالةِ المُدافِعَةِ عَنِ الإنسانِ الّذي صُلِبَ المسيحُ مِن أَجْلِه. سَنَسعى لِتأكيدِ هذا التَّوَجُّهِ بالمُساهَمَةِ معَ غَيرِنا. كما سَنَسعى، معَ الخَيِّرِين، كَي تَكُونَ التَّشرِيعاتُ الدَّولِيَّةُ وَالمَحَلِّيّةُ حاضِنَةً لِلأخلاقيّاتِ على أَنواعِها، فَلا يَكُونُ العِلْمُ سَبَبَ أَذِيَّةٍ لِلإنسانِ وَالكَون، وَلا تَكُونَ الحَداثَةُ مَجالَ تَنَكُّرٍ لِجَوهَرِ الكِيانِ الإنسانيّ، وَخُصُوصِيَّتِه، أَو لاِستِقامَةِ العَلاقاتِ بَينَ أفرادِ المُجتَمَع.
ونَحْنُ نَعتَبِرُ أنَّ المُحاكاةَ الإيجابيّةَ لِلعِلْمِ وَالفِكْرِ وَالفَنِّ تَنْبُعُ مِنْ أَصالَةٍ في فِكرِنا المسيحيِّ الّذي يُؤمِنُ بالإنسانِ وَبِدَورِهِ البَنّاءِ في احتِرامِ الخليقةِ وَصَوْنِها.

12- إلتزامُ شؤونِ الأرض:

في هذا السِّياق، لا بُدَّ لَنا مِنْ أنْ نُلاحِظَ أنَّ لِلدُّوَلِ، كَتَنظِيماتٍ سياسيّةٍ لِلمُجتَمَعاتِ الإنسانيّةِ في حاضِرِنا اليوم، دَوراً كبيراً في النُّمُوِّ المُجتَمَعِيِّ وَفي العَلاقاتِ بَينَ الشُّعُوب. وَلأنَّ الكنيسةَ قائمةٌ في عالَمٍ مَحْسُوسٍ وَتَعمَلُ جاهِدَةً لِلشَّهادَةِ فِيه، لا بُدَّ لَها مِنْ أَنْ تُلاحِظَ ما يَجرِي في المُجتَمَعات، وَتَسْأَلَ عنه، وَتُسائِلَهُ مِنْ بابِ حِرْصِها على صَونِ كَرامَةِ الإنسان. كَما لا بُدَّ لَها مِنَ السَّعْيِ إلى تَحقيقِ ما بَشَّرَتْ بِهِ الملائكةُ يَومَ مِيلادِ الطِّفلِ يَسُوع، أَعنِي الفَرَحَ والسَّلام.


نحن واعُونَ تَمامًا أَنَّ علَينا أنْ نَكُونَ في العالَمِ رُسُلَ فَرَحٍ وَسَلام. نحنُ مُدرِكُونَ أَنَّ علَينا أنْ نَتَجَنَّدَ، مَعَ غَيرِنا مِنْ ذَوِي الإراداتِ الحَسَنة، لِلعَمَلِ على إحلالِ السَّلامِ في كُلِّ بُقْعَةٍ مِنْ بِقاعِ الأَرْضِ يَتَعَرَّضُ أَبناؤُها لِلحُرُوبِ، أَوِ التَّهْجِيرِ، أَوِ الاِقْتِتال، إلى جانِبِ مُرافَقَتِنا لَهُمْ بِالصَّلاةِ حتّى يُخَفِّفَ اللهُ مِنْ آلامِهِمْ وَأَوجاعِهِم، وَيُلْهِمَ السّاسَةَ حُسْنَ التّدبير. كَما نُدْرِكُ أنَّ عَلَينا أَنْ نَضَعَ الخِطَطَ، مَتى أَمْكَنَنا ذلك، لِنُقَدِّمَ الخَدَمات، مَعَ كُلِّ الخَيِّرِين، حَتّى نُدْخِلَ الفَرَحَ إلى قُلُوبِ الجميع. نحن، كمسيحيِّين، نَعمَلُ مِنْ أَجْلِ المُصالَحَةِ وَالتَّقارُب، لأنّ خِدمَتَنا في العالَمِ هِيَ "خِدْمَةُ المُصالَحة" (2 كور 18:5)، وَلا يُمكِنُنا أَنْ نَتَغاضى عنها.
إِنَّ اهتِمامَنا بِالإنسان، وَمَسؤُولِيّةِ الدُّوَلِ عَن صَونِ حُرِّيّاتِهِ وَطُمَأْنِينَتِهِ وَزَرْعِ الفَرَحِ في مُحيطِهِ، يَنسَحِبُ على الخليقةِ بِأَسرِها. عَرَفَ عالَمُنا في السَّنَواتِ الأخيرةِ تَدَهْوُرًا بِيئِيًّا غَيرَ مَسبُوقٍ، تُنذِرُ عَواقِبُهُ بِتَدمِيرِ الحياةِ البَشَريّةِ على الأرض. سَبَقَ أَنْ طَوَّرْنا، في كنيستِنا الأنطاكيّةِ، تَخطِيطًا بَعيدَ المَدى حَولَ البِيئةِ وَحُسْنِ التَّعامُلِ مَعَها، وَسَنَسعى لِوَضْعِ هذه المُخَطّطاتِ مَوضِعَ التّنفيذ، كما سَنَعْمَلُ لِتَوسيعِ المُشارَكَةِ في هذا الهَمِّ مَحَلِّيًّا وَدَوْلِيًّا، "لأنّ الخليقةَ كُلَّها" مَدْعُوَّةٌ أَنْ تُسَبِّحَ الرّبّ.

خاتمة:

 أحبّائي،
نحنُ جَماعَةٌ قِيامِيّةٌ تَعِي أَنَّ النّعمةَ الإلهيّةَ "لِلنّاقِصِينَ تُكَمِّل"، وَلذلك، نَحنُ على ثِقَةٍ بِأَنَّ ضُعُفاتِنا لَنْ تَحُولَ دُونَ إِتْمامِنا الرّسالَةَ الّتي أؤتُمِنّا عَلَيها كَأَفرادٍ وَكَجَماعَة.  أَطْلُبُ مِنَ الله أَنْ يُمَكِّنَنا مِنْ مُتابَعَةِ هذه التَّوَجُّهاتِ الّتي مِنْ شَأْنِها أَنْ تَجعَلَ كُرْسِيَّنا الرَّسُولِيَّ يَقُومُ بِالمَهامِّ المُلْقاةِ على عاتِقِهِ كَشاهِدٍ لِلمسيحِ في هذا المَشْرِقِ الّذي نُحِبّ، وَفي العالم.
أَلا قَوّانا اللهُ لكي بِنِعمتِه نَنمُو، وَبِخِدمتِنا في شَراكةِ المحبَّةِ نَسمُو، فَيَتَناسقَ بِالمَحَبَّةِ البُنيَان، آمين.


صَدَرَ عن مقامِنا البطريركيِّ في دمشق
بتاريخِ العاشرِ من شهرِ شباط للعامِ أَلْفَيْن وثلاثةَ عشر.


+ يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق