من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه



إنكار الذات 

بعد عجيبة الأَرْغِفَةِ الْخَمْسَةِ وَالسَّمَكَتَيْنِ التي قام بها يسوع وأطعم الجُموعَ، انفرد للصَّلاةِ وكَانَ التَّلاَمِيذُ مَعَهُ. فَسَأَلَهُمْ قِائِلًا: «مَنْ تَقُولُ الْجُمُوعُ أَنِّي أَنَا؟». وبعد إجابتِهم بأن القوم يقولون بأنّه أحدُ الأنبياء، توجَّهَ إليهم قائلاً: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ أَنِّي أَنَا؟» (لوقا ٩: ١٨-٢٠).

يا لَهُ مِن سؤال! فهل يمكن لِمَن رافقَهُ وعايَنَهُ، وسَمِعَ كلامَه، ورآه يَجتَرِحُ العَجائبَ، ويَشفي المَرضى، ويُقيمُ الموتى، أن يُعطيَ إجابةً خاطئة؟ ماذا عنَّا نحن؟ ماذا سيكون جوابُنا لو طُرِحَ السُّؤالُ عينُهُ علينا؟

وتأتي إجابةُ بُطرسَ الرَّسولِ المُزَلزِلة: «مَسيح الله» (لوقا ٢٠:٩).

كلمةُ "مسيح" لها مَعنًى كبيرٌ جدًّا. هو «المشيا» المُنتظَر، مُخلِّصُ العالَمِ ودَيَّانُه، والآتي مِن السَّماوات. وهذا ما افتتح بِهِ متَى الإنجيليّ إنجيلَهُ مُتَوَجِّهًا لِليَهود: «كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ». فكلمةُ المَسيح واسمُ اللهِ "يهوه" مَجمُوعان في اسم يسوعَ الّذي يَعني في لُغَتِهِ الأصليّة «يهوه+يشاع» أي الله الذي يُخلِّص. وهذا ما عنى بهِ اللهُ عِندمَا أجابَ موسى النَّبيَّ «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ» و"يَهْوَهْ"(خروج ١٤:٣-١٥).

فكُلَّ مَرّةٍ نَنطِقُ فيها باسمِ يَسوع، نَحن نُناشِدُ خلاصَهُ، ونَعتَرِفُ بِفِدائِهِ لَنا.

ويُكمِلُ المَقطعُ الإنجيليُّ بِشَرحِ يَسوعَ للتَّلاميذِ مَعنى أن يكونَ هُوَ المَسيح. فيقول: "«إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (لوقا ٢٠:٩).

التَّسميةُ الّتي أطلَقَهَا يسوعُ عَلى نفسِهِ هي «ابْنَ الإِنْسَانِ» مُعطِيًا بِذلكَ المَعنى الكاملَ الخَلاصيّ لها. وهذا أيضًا مرتبطٌ بالمسيح المُخلِّصِ الّذي تكلَّمَ عليه دانيالُ النَّبي في إصحاحِهِ السَّابِع.

قد يتَبَادَرُ إلى الذِّهنِ سؤالٌ يقول: لماذا ينبغي أن يَتألَّمَ؟ هل هو محبٌّ للألمMasochiste ؟ وهل الألمُ مقدَّسٌ في المسيحيّة؟ لا، ليس الموضوع كذلك. الألمُ هنا يأتي نتيجةَ سُقوطِ الإنسانِ الّذي يُبادِلُ الخَيرَ بِالشَّر، والمَحبَّةَ بِالكُرهِ والبُغض، ويُقابِلُ السَّلامَ بالقَتل. ساعِدنا يا ربُّ كي نَمتَنِعَ عن هذا كُلِّه عندما تَتَعارَضُ مَصالحَنَا مَعَ الحَق.

مَشروعُ اللهِ الخَلاصيُّ الّذي يَمرُّ بِالمَحبَّةِ والاتِّضاعِ، يَتعارَضُ بِالكُليَّةِ مَعَ مَا كان يَعيشُهُ شُيوخُ اليَهودِ ورُؤساءُ الكَهَنةِ والكَتبَة. كانت محبّتُهم زائفةً، ومَبنيَّةً على التًّسلُّطِ والتَّحكُّمِ بالآخَرين. لذا يَقولُ لنا الرَّبّ إنّه سيَتحمَّلُ هذا الألمَ الذي لا مَفرَّ مِنهُ، ولكنَّ هذا الألمَ سَيؤولُ إلى فَرحٍ، إلى قِيامَة.

وَيُكمِلُ يسوعُ كلامَه لِلتَّلاميذِ فيقولُ لهم ولَنا بِالفَمِ المَلآن، كيفَ يكونُ الإنسانُ مَسيحيًّا؟ وماذا يعني أن نكونَ مِن أتباعِ المَسيحِ، ومَا هُوَ الشَّرطُ لذلك، فيقول: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي» (لوقا ٢٣:٩).

التَّرجَمةُ العَربيَّةُ في الإنجيلِ الكَنسيِّ تَستعمِلُ كَلمةَ "فليَكفُرْ". ولا يُوجَدُ فرقٌ في تفسيرِ الفِعلِ باللغة اليونانيّة«ἀρνησάσθω»، إذ المَقصودُ هو التّالي: نُكرانُ الذَّات.

 ويأتي المَعنى في العُمقِ «المَوتُ عنِ الذَّات».

المَوتُ عن الذَّاتِ في المَسيحيَّةِ، ليسَ سَلبيًّا، بل هُوَ مَوتٌ يؤدّي لِحياةٍ جَديدةٍ قِياميَّةٍ مَعَ المسيح. إنَّها وِلادَةٌ جَديدة. 

ولَكِن كيفَ يَتِمُّ ذَلك؟ أن نَطلُبَ ما يُوافِقُ مَشيئةَ اللهِ لِقداسَتِنا، ولا نطلبُ ما يُنمِّي الأَهواءَ المُعيبَةَ فينا، مِن حُبِّ التَّملُّكِ والتَّسلُطِ والأنانيَّةِ والكِبرياء، ونرفض كلَّ ما يجعَلُنا بَعيدينَ عنِ النَّقاوَةِ والمَحَبَّة. وهذا يتطلّبُ إفراغَ الذَّات، أي نُخلي ذواتِنا للامتِلاءِ مِنَ المَسيح، فَنَجعلُه المِحورَ الأَساسيَّ ونقطةَ الارتكازِ في حياتِنا. «المسيحُ يحيا فيّ».

وقد أعطانا الرَّبُّ المِثالَ الحَيَّ، وأفرَغَ ذاتَهُ، وهُوَ رَبُّ المَجد. تنازَلَ وتَجسَّدَ بِفعلِ مَحبَّتِهِ الكبيرةِ، لِيُقيمَنا ويخلِّصَنا: «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِي» (فيليبي ٦:٢-٨).

هل هذه قساوةٌ؟ كلا، هذا جهاد محبّة، وطعمَهُ طَيِّبٌ وطَيِّبٌ جِدًّا. ومَنِ اختبَرَهُ ذاقَ ما هو أطيبُ مِن كُلِّ التُّرابيَّات. فالاتّحادُ بِالسَّماويّات، يَجعلُ الإنسانَ مَلِيئًا بِمَذاقٍ ليسَ مِن هذا العَالم. 

وهي حَربٌ ضَروسٌ ضِدَّ الوَحشِ القَاتل الذي يَكمُنُ في كُلِّ واحِدٍ منّا، والذي يُدعَى «الأنا». إذ، ما مِن مَحبَّةٍ يُمكِنُ أن تَنمُوَ في «الأنا»، وما مِن إنسانيّةٍ يُمكنُ أن تَنتُجَ عن «مرَضِ الأنا». إنّ أشرسَ حَربٍ، وأشدَّ صِراعٍ هُوَ قتلُ الأنا لتخليصِها، ولا يمكنُ تَحقيقُ ذَلكَ الاّ بِنِعمَتِهِ هُوَ وقُوَّتِه هو. 

فَلنُعلِنِ اليَومَ الحَربَ على «الأنا»، ونسعَ لِنعايِنَ وجهَ المَسيحِ المصلوبِ والقَائم. ولا نَقُلْ إنَّ حَملَ الصَّليبِ مُستحيلٌ ويَدفَعُنا لِنسيرَ عَكسَ الدَّهريَّة. إذ لا خلاصَ مِن دونِ حَملِ صَليبِ الرَّبِّ الّذي، وإن بَدا ثَقيلًا، حِملَهُ خَفيف.

فَلننظُر إلى جَمالِ هَذهِ الصُّورةِ الّتي أعطانا إيّاها الرَّبُّ: «احملوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (مت ٢٩:١١). النِّيرُ هُوَ العَصا الّتي تَربِطُ ثَورَين إلى المِحراث. ولكن إذا ربَطنا حَمَلًا صَغيرًا معَ ثَورٍ بِنِيرٍ واحِدٍ، فالّذي سَوفَ يَحمِلُ كُلَّ الحِملِ هُوَ الثَّور. فلا نَظُنَّنَ إذًا أنَّنا متروكون.

نهايةً، الصَّليبُ طريقُ خلاصِنا: «فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا»؟ (لوقا ٢٤:٩-٢٥).