كلمة صاحب الغبطة في مؤتمر "التراث المسيحي المشترك…



2019-09-18

كلمة صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر في مؤتمر "التراث المسيحي المشترك في الوادي المقدس"
الديمان، 18 – 19 أيلول 2019

الكنيسة في بلادنا:
لعل الآثار المسيحية الغنية في وادي قنوبين من أثمن الشواهد على أصالة وجود المسيحية في بلادنا منذ بداية عهد البشارة بالإنجيل. فإن المسيحية لم تأت إلى هذه الأرض بنوع من الصدفة التاريخية أو الظرف العابر، ولا كان أبناؤها غرباء في هذه البقاع، بل هي البذرة التاريخية التي أخصبت حضارة هذه البلاد والخميرة الصالحة التي خمّرت ثقافة منطقتنا وقيمها ورسالتها إلى العالم. من هذه الأرض، من أنطاكية كرسي الرسولين بطرس وبولس الأقدم، خرجت البشارة إلى العالم اليوناني وإلى غرب أوروبا حتى بلغت عاصمة الإمبراطورية الرومانية وبدّلت هويّتها الدينيّة من عبادة القيصر إلى الاستنارة بصليب المسيح.

بدأت كرازة الإنجيل على ساحل فينيقية مع الرب يسوع المسيح. العهد الجديد يذكر لنا أنّ "الذين حول صور وصيدا، جمع كثير، إذ سمعوا كم صنع (الرب يسوع)، أتوا إليه" (مرقس 3 : 8)، وأنّه قصد "نواحي صور وصيدا" (متى 15 : 21، مرقس 7 :24) حيث شفى ابنة المرأة الكنعانية "السورية الفينيقية"، كما يسميها الإنجيليون. ويوضح سفر أعمال الرسل أنّه بعد "تشتّت المؤمنين" على أثر استشهاد أوّل الشمامسة استيفانوس، منهم من نزحوا إلى فينيقية حيث كرزوا بالإنجيل (أعمال 11 :19). الأمر المؤكّد أنّه في مرحلة مبكّرة جدًّا، زمن الرسل تلاميذ المسيح، وُجِدت جماعات مسيحية وكنائس حيّة في لبنان وسوريا. 

مدينة صور زارها الرسول بولس في طريق عودته من اليونان العام 56 للميلاد، ووجد فيها كنيسة قضى في كنفها سبعة أيام (أعمال 21 : 4 – 6). أما صيدا فقد أقامت فيها جماعة مسيحية تفقّدها الرسول بولس المُقيَّد في طريقه الى روما وقضى وقتًا في زيارتها (أعمال ٢٧ :٣). 

وتُثبِت المصادر التاريخية أنّ مدينة صور أضحت قُبَيل نهاية القرن الثاني إحدى أقدم الأبرشيات وأكبرها في الشرق المسيحي. كانت تضمّ أربع عشرة أبرشية. وقد دُفِن في كاتدرائيّتها البديعة العام 254 العلاّمة أوريجنس أعظم الكتّاب المسيحيين اليونان في تلك الحقبة. ويشهد للمكانة الكبرى لأبرشيات فينيقية أيضًا المجمعُ الكنسي الكبير، المُنعقِد العام 335 في صور، والذي ضمّ 348 أسقفًا من أرجاء متعدّدة في المسكونة. وقد لعب أساقفتها دورًا بارزًا في وصول البشارة لا لى الداخل الفينيقي فحسب، بل إن الأسقف فرومنتيوس (Frumentios) الصوري، كان صاحب فضل كبير في تعميد الشعب الأثيوبي، حوالي العام 330، بالتعاون مع البطريرك الإسكندري القديس أثناسيوس الكبير.
وتتعدّد الإشارات في المصادر التاريخية الى أبرشية صيدا في القرن الرابع، والتي شارك أسقفها في المجمع المسكوني الأوّل المُنعقِد في نيقية العام 325. 

أمّا بيروت مركز الثقافة والتعليم والمدرسة الحقوقية الرومانية العريقة، فقد كانت محطّة هامّة للرسل في طريقهم من أورشليم إلى أنطاكية، ما جعل كنيستها، التي أسّسها القديس كوارتُس أحد الرسل السبعين، نابضةً بالحياة. يؤكّد ذلك العدد غير القليل من مُدراء مدرستها الحقوقيّة وأساتذتها وطلّابها الوثنيين الذين اعتنقوا المسيحية، في النصف الثاني من القرن الثالث، على أثر إقامتهم فيها وما وجدوه فيها من ثقل ديني كنسي. وقد استُشهِد غير قليل من هؤلاء الحقوقيين خلال اضطهاد الإمبرطوريين الوثنيين ديوكليتيانس ومكسيميانس للمسيحيين ابتداءً من العام 303. يبرز بينهم بامفيلس ((Pamphilos أسقف قيصرية، البيروتي المنشأ، العالِم في الكتاب المقدّس وأستاذ المؤرِّخ إفسيفيوس القيصري، وأبفيانس ((Apphianus صديق إفسافيوس المتحدِّر من عائلة وثنيّة نبيلة والذي اعتنق المسيحية في بيروت قبل أن يستشهد من أجل المسيح. مدينة Berytus بيروت صارت بجملتها مسيحية أواسط القرن الرابع بعد الزلزال الذي ضربها العام 349، والذي اعتُبِر "علامة غضب إلهي"، إذ اعتنقت القلّة الوثنية الباقية فيها الإيمان بالمسيح.

ومنذ مطلع الانتشار المسيحي، غدت مدينة طرابلس كرسيًّا أسقفيًّا. فإن الرسول بطرس في طريقه إلى أنطاكية سام أول أسقف عليها وهو مارونس. وكانت تضم اثني عشر كاهنًا وشماسًا. شارك أسقفها في مجمع نيقية العام 325 وإلى مجمع أفسس الذي رئسه القديس كيرلس الإسكندري العام 431 حضر أسقفها كوموديوس، أما أسقفها ثيوذوروس فقد شارك في مجمع خلقيدونية العام 451.

تروي المصادر التاريخية أخبارًا تفصيليّة عن الإجراءات المتّخذة من قبل جيوش ديوكليتيانس ما بين العامين 303 و313 من أجل قمع الكنائس في ساحل فينيقية (الممتدّ من فلسطين إلى لبنان وسوريا)، ما يشير إلى حجم الأبرشيات والامتداد الواسع للمسيحية في المنطقة. وقد قدّمت الكنيسة في هذه البلاد في سني المسيحية الأولى المئات من القدّيسين الشهداء والنساك الأبرار والمعترفين ومعلّمي الإيمان. 

مع انتهاء زمن الاضطهاد واعتلاء القديس قسطنطين الكبير المعادل الرسل عرش المـُلك في العاصمة الجديدة الشرقية للإمبرطورية الرومانيّة، تمّ العثور على صليب الرب يسوع، وأضحت أورشليم مدينة الحج الأولى في العالم. وكان الساحل الفلسطيني اللبناني السوري الرابط الحيوي بينها وبين عاصمة الإمبراطورية الجديدة بعد أن كان طيلة ثلاثة قرون صلة الوصل بين القدس وأنطاكية. فبلغت أبرشيات سوريا ولبنان الساحلية والداخلية عصرها الذهبي، فيما تراجعت الوثنية وشارفت على الاضمحلال، إذْ كانت تُهدَم معابدها وكان أهلها يعْمَدون إلى إحراق الأصنام واعتناق الإيمان الخلاصي. ما لا شكّ فيه أنّ عهد الإمبراطور ثيوذوسيوس كان انتصارًا نهائيًّا للمسيحية على الوثنية في الشرق المسيحي. وأن لبنان وسوريا وفلسطين اعتُبِرتْ بالكامل أرضًا مسيحية مع بداية القرن الخامس، كما يدل عدد الكنائس التي شيدت في النصف الأول من القرن الرابع في صور ودمشق وبيروت وحمص وأفاميا وطرابلس.

وكان أن أقام الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبير (حكم 379 – 395) كاتدرائية كبرى في معبد جوبيتر في بعلبك التي باتت كرسيًا لأسقفٍ خدم معه عدد كبير من الكهنة والشمامسة، وهو الإمبراطور الرومي الذي أنعش الحياة الرهبانية والنسكية في الوادي المقدس حين بنى دير المائتي راهب والذي يحمل الوادي اسمه اليوناني إلى اليوم: وادي قنوبين ((Koinovion أي "دير الحياة المشتركة"؛ فيما هدم الإمبراطور الرومي قسطنطين الثاني معبد أفقا أحد آخر وأبرز معالم الوثنية في بلادنا.

الرهبنة:
كان تأسيس الـ Koinovion الذي عُرف أيضًا باسم "دير المائتي راهب" في الوادي المقدس امتدادًا للرهبنة المزدهرة في صحراء سوريا والجبل العجيب في شمالها ولافرا القديس سابا في فلسطين وصوامع بادية الأردن. كما أن انتشار الكنائس المتعددة التي تحمل اسم القديس الشهيد ماماس في المنطقة الممتدة من بشرّي مرورًا بالمنصف ووصولاً إلى دير مار ميماس جنوبي لبنان يشهد لحضور النساك الوافدين من كبادوكية في آسية الصغرى موطن القديس المذكور والمستشهد في أواسط القرن الثالث زمن الإمبراطور أفريليانس. 
نستنتج من كتاب تاريخ أصفياء الله لثيوذوريتوس القورشي وسواه من المصنفات التاريخية والأدب الرهباني، أن برّية أنطاكية ومشرقها أزهرت بكبار القامات الروحية النسكية أمثال القديس الكبير أفرام السرياني في أواسط القرن الرابع، ثم القديس يوحنا الذهبي الفم ابن أنطاكية وبطريرك القسطنطية قمر الكنيسة المنير، وقديسنا الأرثوذكسي مارون الناسك العظيم، ومُعاصرهما القديس سمعان العمودي القديم الذي تتلمذ في أواخر القرن الرابع على الناسك البار إيليوذوروس، وإبراهيم الناسك الشاهد على تعميد جبل لبنان وانتهاء عهد الوثنية فيه في أواسط القرن الخامس، وسمعان العمودي الصغير الذي نسك في الجبل العجيب في القرن السادس. هذا المناخ الروحي الغني طبع أيضًا المدرسة الأنطاكية التفسيرية بخبرة الصوامع في التقشف والتوحد، فقدّمت للمسكونة معلّمين كبار للاّهوت وللحياة الروحيّة. 

بُعَيْدَ القرن السابع حين وفد رهبان دير مارون والجماعات المسيحية التي تجمهرت من حولهم إلى جبال لبنان وجدوا فيها أرضًا مخصَبةً بدماء الاستشهاد وأعراق النسك. ووجدوا في وادي الـ Koinovion مركزًا رهبانيًّا عريقًا ضاهى معاقل الرهبنة الكبرى في أرجاء الكنيسة الأنطاكيّة. كهوف قنّوبين وصوامعه الغنيّة بالآثار البيزنطيّة، مثل معظم أراضي الساحل الشرقي للبحر المتوسط، فتحت أبوابها للجماعات المسيحيّة الوافدة إليها والتي كانت بعدُ في طور البحث عن الهوية الكنسية واللاهوتية والقومية. في هذا المحيط الآمن المستقر وجدت البطريركية المارونية، فيما بعد، مقرًّا لها، وهي الإبنة المنبثقة من رحم كنيسة أنطاكية والتي اختارت تشكيل هويتها عبر الإلتصاق بكنيسة روما في أواسط القرن الثاني عشر. 

رسالة الوادي المقدس اليوم:
كان وادي قنوبين خير مركز أنعش المسيحية وألهم رهبناتها، وهو يبقى ميراثًا مسيحيًّا جامعًا ورسالةً إنسانية في عالم اليوم تذكر الإنسان المعاصر أن "الحاجة إلى واحد" (لو 10: 42)، وأن رسالة المسيحيين في شرقنا هي أن يحملوا نور الإنجيل في قلوبهم ويبقوا الخميرة الصالحة التي "تخمّر العجنة كلها" (متى 13: 33)، وأن يشهدوا لمنطق الصليب المحيي ولقيامة المسيح وغلبته على الموت.

الوادي المقدس خير تذكير لنا بالحاجة الماسّة إلى التلاقي، الذي يشهد له التراث المسيحي الغني المشترك والذي هو إرث مسيحي حضاري لا يختص بكنيسة دون سواها. بل هو خير تأكيد على غنى التعدّد المسيحي في منطقتنا الأنطاكية والتي ينبغي أن تبقى نموذجًا للتلاقي والحوار الروحي العميق بين الإخوة.

وادي قنوبين دعوة إلى قراءة تاريخ المسيحية في منطقتنا بموضوعية وعلمية. دعوة إلى تخطي الإيديولوجيات والنظريات نحو تقصّي الجذور التاريخية القديمة لوجودنا على هذه الأرض المقدسة، ما من شأنه أن يرفد الحوار بين الكنائس بحوافز إيجابية جديدة وبقراءة صادقة وبنّائة للتاريخ. 

هو خير نموذج ينبغي السهر للحفاظ عليه في ظل المحاولات الجادة والمتعدّدة لمحو الأثر التاريخي والتراث المسيحي ولإضعاف وجود المسيحيين في منطقتنا. 
ألا بارك الله أعمال هذا المؤتمر وحفظ الوادي المقدس ميناءً روحيًّا هادئًا في شرقنا المسيحي المتألّم، مكانًا شريفًا يجمع الإخوة ويشدّهم إلى الاتحاد الكامل في شركة الروح القدس.