في ذكرى التلميذين تجذل أنطاكية وفي عناق الرسولين…



2014-06-26

p1

  


كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في افتتاح المؤتمر الأنطاكي
البلمند، 


أصحاب القداسة والغبطة،
أحبتي وإخوتي،

يسرني أن أفتتح هذا المؤتمر "مؤتمر الوَحدة الأنطاكية"، مرحباً بإخوتي البطاركة أصحاب القداسة والغبطة وكل أصحاب الدولة والمعالي والسيادة والسعادة، وبالسادة المطارنة والأساقفة والآباء الأجلاء والقساوسة المحترمين والرهبان والراهبات، والأساتذة الذين يشاركوننا هذا الحفل وجميع أبنائنا الموجودين معنا في هذه المناسبة الطيبة على قلوبنا، خاصةً المشاركين في هذا المؤتمر والذين أتوا من أبرشياتنا الممتدة في كل أنحاء المدى الأنطاكي. فالبعض أتى من مناطق قست عليها الأيام والبعض الآخر عَبَر المسافات الشاسعة. كلٌّ تحمّلَ عناءً ما واضعاً نصب عينيه أن العمل في الكنيسة هو ورشةٌ تخص أبناء الكنيسة أجمعين، إكليروساً وشعباً.

في ذكرى التلميذين تجذل أنطاكية وفي عناق الرسولين تتعانق قلوب المؤمنين لتقول للدنيا أن عطر القداسة وشذى المسيحية سيبقى دوماً فوّاحاً في أرض المشرق. في ذكرى الرسولين بطرس وبولس شاءت أنطاكية الأرثوذكسية أن تجمع أحبتها من كل أبرشياتنا الأنطاكية في أصقاع المسكونة لتقول لهم أنهم كنزها وأن كنيستها بشرٌ أولاً قبل أن تكون حجراً. تجمعهم اليوم لتقول لكل منهم أنه، على مثال بولس، مدعوٌّ أن يكون بوقاً يذيع كلمة الحق إلى أرجاء المسكونة، وعلى مثال بطرس، مدعوٌّ أن يكون حجراً صلداً في جسد كنيسته. يتقوى بغيره وقد يستند عليه، لا بل يعلو أيضاً. لكن وأمام المسيح، الحقِّ وحجرِ الزاوية، تخبو الأمجاد وتميد المفاخر ويصمت كل لسانٍ بشريٍّ ويسمو منطق المحبة والوحدة. أمام يسوعنا يسمو طهر النفوس وتقطر المقل حنيناً إلى إتمام رغبته التي أسر بها لأبيه "ليكونوا واحداً كما نحن" (يو17: 11).

نجتمع هنا كأنطاكيين، متحلّقين حول أنطاكية التي امتدت وراء حدودها إلى عالمٍ لا حدود له ماسحةً جهالة الماضي فاضحة صمت الأصنام حاملةً رسالةً علّمها المخلص، وبشر بها الرسل، وفسرها الآباء، وأقرتها المجامع، واختبرها القديسون، رسالةَ إيمانٍ وسلامٍ ومحبةٍ وانفتاحٍ ووحدةٍ. وها نحن اليوم قد مشينا مع السيد منذ قيامته، وحملنا الصليب من بعده، لننشر هذه الرسالة في مشرقنا الحبيب وفي العالم كله. نحن إذاً لسنا هنا صدفةً. نحن هنا لدورٍ محوريٍّ علينا أن نبلوره بثقة المؤمنين وقرار الفاعلين في مسار التاريخ.

أردناه مؤتمراً عن الوحدة الأنطاكية في كنيسة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، مؤتمراً يرسم صورة الوحدة الأنطاكية ولا يكتفي بالتنظير عنها. وعندما نتحدث عن الوحدة، نحن لا نتحدث عن شيء ينقصنا. نحن لا نقول بأننا مشتتون. لكننا نقول أننا نسعى أن نشد أواصر وحدتنا ونذيب ضعفاتنا في سبيل تقويتها. فوحدتنا ليست بالحلم. هي واقعٌ نريد تمتينه. نحن لا ندّعي في لقائنا هذا أننا أتينا بالعجب ولا نقول بأننا سنمتلك من ورائه "عصاً سحرية". نحن نقول أن هذا المؤتمر خطوةٌ سبقتها خطواتٌ وستلحقها أخرى بعون الله. العمل الإغاثي الاجتماعي والتربوي والموقع الإلكتروني الجديد وصفحة التواصل الاجتماعي والمركز الإعلامي وورشات العمل المستحدثة في لجانٍ متخصصة في مجالات تطويب القديسين الأنطاكيين والتراث والتوثيق والإعلام والتربية المسيحية والشباب وغيرها التي أُطلِقت مؤخراً، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما هي إلا تعبيرٌ عن مسيرةٍ ابتدأت سابقاً وتستمر لتقول إن كنيستنا مدعوةٌ أن تكون مجسّاً أولاً لهموم إنسانها وسفينةً لا تهاب أمواج هذا العالم. أردناه مؤتمراً تلتقي فيه أنطاكية مؤمنين ورعاةً، بطريركاً، مطارنةً، كهنةً، رهباناً وراهباتٍ، شيوخاً وشيبةً وشباباً، لنقول لأنفسنا أولاً وللعالم ثانياً أننا بوحدتنا وبتكاتفنا، ورغم تباعد المسافات وتراكم السنين وصعوبات التاريخ وقسوة الأيام الحاضرة، أننا كنا ولازلنا وبعد ألفي عام من مجيء سيدنا أهلاً لأن نفخر بمقولة كاتب سفر أعمال الرسل: "ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً" (أع 11: 26).    

نجتمع اليوم مع إخوتنا في الكنائس الأخرى. نجتمع لنعانق في شخصهم كل أخ لنا بالمسيح الرب. اليوم أيضاً تعانق أنطاكية الأرثوذكسية، بوجودكم إخوتي أصحاب القداسة والغبطة، أخواتها المارونية والسريانية والأرمنية والملكية والكاثوليكية والإنجيلية وكلّ أخٍ لها في المسيح مصليةً مع قديسيها أن يعطينا الرب الإله أن نكون دوماً يداً واحدةً وقلباً واحداً يخفق حباً بسيد الموت والحياة. وما وحدتنا الأنطاكية، محور هذا المؤتمر، إلا غصنٌ نضرٌ وباكورةٌ ملهِمةٌ ومحفّزٌ معبّدٌ السبيل نحو وحدةٍ مسيحيةٍ مشرقيةٍ تكون نواةً لوحدة المسيحيين في كل العالم. كنيسة أنطاكية هي ابنة اللاهوت المعاش وربيبة المجمعية الرسولية وسليلةُ قداسةٍ واحدةٍ، ومن أديم أرضها انطلقت شرارة المسيحية من هذه الأرض المشرقية لتكتسح ألباب الناس. فالحري بنا أن نطلق ومن ذات المكان شرارة الوحدة بالمسيح من الأرض التي التحفت باسمه منذ ألفي عام.

لسنا هنا لنخوض في محاور المؤتمر ولا لكي نستبق ونتكلم عن إنجازاته. لكن إضاءة سريعةً على واقع التاريخ تفي بشرح ضرورة عقده. لقد أوجبت الظروف التاريخية التي مررنا بها والتغيرات الاجتماعية والديموغرافية التي شهدنا ونشهدها منذ مطلع القرن العشرين أن تكون كنيسة أنطاكية في قلب الحدث. لقد عرفت كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية كما غيرها من الكنائس كثيراً من التحولات الديموغرافية والاجتماعية والسياسية منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن. أربع أبرشياتٍ زالت من على الخارطة في مطلع القرن العشرين وانفتاحٌ جديدٌ على عالم، سمي بالمَهاجر، يومها. دولٌ وحدودٌ فرضت واقعاً جديداً، شئنا أم أبينا، تياراتٌ سياسيةٌ وحزبيةٌ وُجدت هنا وهنالك، وخرجت في كثيرٍ من الأحيان من بين أبنائنا. حروبٌ ونزاعاتٌ نحصد إلى الآن ثمارها. سبل تواصل جديدة لم تكن يوماً لتخطر في بالنا. كلّ ذلك يحتم علينا أن نفكر بتدعيم التواصل والتقارب بين أرجاء كنيسةٍ واحدةٍ يلدها جرن المعمودية الخلاصي وتجمعها الكأس الواحدة. كل ذلك يحتم علينا أن نفكر بسبلٍ لنقول لكل مؤمنينا أن أبرشياتنا الأنطاكية وطناً وانتشاراً هي جداول تنساب لتُنبض الحياة في نهرٍ أنطاكي جرى ويجري من ألفي عام، وهي أغصان فتية صلبة في الدّوح الأنطاكي الغارق في التاريخ والناظر أبداً إلى الغد.

وعندما نتكلم عن الوَحدة، فنحن أبعد ما نكون عن الوِحدة. وهذه فرادة اللسان العربي. وَحدتنا هي نقيض وِحدتنا وانعزالنا. وَحدتنا لا تعني أبداً تقوقعاً وانكماشاً وابتعاداً عن أطياف مجتمعنا وعن إخوتنا المسلمين الذين نتقاسم وإياهم أكثر من أخوّة. لقد عرف المسيحيون والمسلمون في هذه الأرض المشرقية منذ مطلع القرن العشرين بوتقة ضمتهم في إطار الوطن الواحد والعيش الواحد رغم اختلاف الدين. لم يكن اختلاف الدين يوماً مدعاةً لفرقة وانقسام. "الدين لله والوطن للجميع" قالها أحد الأسلاف. أما تلك التيارات التكفيرية التي نسمع بها هنا وهنالك فنترك للتاريخ أمر الحكم عليها. صلاتنا اليوم إلى الرب الخالق أن يهدي الجميع ويمسح عن عيون البعض غشاوة التكفير والتزمت لنرى كلنا في الآخر صنيع الله الحسن، الذي شاء أن نتآخى وإياه دوماً وأبداً. ومن هنا أقولها لكلِّ إخوتنا المسلمين: كل عامٍ وأنتم بخيرٍ في شهر التسامح وشهر الرحمة الفضيل، شهر رمضان.

نجتمع اليوم في هذا المكان العزيز على قلبنا، في البلمند. نجتمع وقلبنا يخفق صلاةً من أجل السلام في سوريا بشكلٍ خاص. نجتمع اليوم وقلوبنا تعتصر ألماً من أجل كل شهيدٍ يسقط ضحية الإرهاب والتكفير والعنف ويدفع فاتورةً غاليةً لشعاراتٍ طنانةٍ عكّرت صفو عيشٍ آمن. نجتمع اليوم وقلبنا يَدمى مع أبنائنا في سوريا. نجتمع لنرفع الصوت عالياً في المحافل الدولية الصماء عما يجري في بلادنا من خطفٍ واستباحة مقدساتٍ واستيرادٍ لهمجيةٍ لم نعرفها من قبل. نجتمع لنقول إن "المجتمع الدولي" بكل محافله يصم حتى الآن أذنيه عن قضية المخطوفين في سوريا ومنهم أخوانا المطرانان يوحنا وبولس. نجتمع لنقول، إن كل هذه الصعوبات نطمرها في تراب أرضنا وفي هذه الأرض نبقى شاء من شاء وأبى من أبى. ربوع الشآم أرض سلامٍ، وسلام سوريا توقنا جميعاً.

ومن هنا أيضاً نرفع صلاتنا من أجل لبنان ونصلي أن يكلل الله أرضه بالسلام والطمأنينة. كما ندعو مسؤوليه أن يضعوا دوماً في أذهانهم وقلوبهم أنهم مؤتمنون على حياة من انتخبهم وانتدبهم وعلى استقرار هذا البلد بالدرجة الأولى. وإذ نتكلم اليوم عن الوحدة، ندعو ونصلي أن يكون الجميع في لبنان يداً واحدةً في وجه من تسوغ له نفسه أمر العبث باستقرار الناس. ومن هنا ندعو كل الأفرقاء إلى اعتماد لغة الحوار والتوافق سبيلاً لملء سدة الرئاسة الأولى فيه.

نرفع صلاتنا أيضاً من أجل سلام المشرق والعالم كله، وفي عبق بخور صلاتنا يحضر العراق الجريح بما يعصف فيه اليوم من أحداث ٍأليمة وكذلك مصر والأردن وفلسطين مهد المسيح.

في الختام أود أن أشكر أولاً أصحاب القداسة والغبطة وجميع الحاضرين، وكل المشاركين في المؤتمر وخاصة اللجنة المنظمة وكل أعضاء العائلة البلمندية وكل الجنود المجهولين الذين تعبوا وسهروا لتلتقي كنيسة أنطاكية اليوم وتلقي برسالتها سلاماً وتآخياً للجميع. أشكر كذلك جميع وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والذين يرافقوننا في تغطية هذا الحدث داعياً لهذا المؤتمر بالنجاح.