رسالة الصوم الكبير ٢٠١٨



2018-02-11

برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
إلى
إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة
وأبنائي وبناتي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي

أيها الإخوة والأبناء الروحيون الأعزاء،

يطيب لي ونحن على عتبة هذه الأيام المقدسة أن أضم صوتي إلى صوت قلوبكم مصلياً من أجل سلام العالم ومن أجل خير جميع الناس. نحن على عتبة زمن مبارك نصلي لمن فارقنا إلى الديار الباقية ونرفع تضرعنا إلى الرب الخالق أن يقدس حياتنا بذكره القدوس.

الصيام ملك الفضائل. وهذا ما تقوله ترنيمة أحد مرفع اللحم. إذ تدعو الصيام ملك الفضائل وتخاطبه بالتورية داعية المؤمنين كي يستقبلوه كملك على النفوس يرسو بها على موانئ الخلاص:

"لنسبق أيها الإخوة فننقِّ ذواتنا لملك الفضائل. لأن ها قد وافى(الصيام) جالباً لنا ثروة الصالحات مخمداً نهضات الأهواء ومصالحاً الأثمة مع السيد. فلنستقبله بسرورٍ هاتفين إلى المسيح الإله: يامن قام من بين الأموات احفظنا أبرياء من المداينة نحن الممجدين إياك"

الصوم وسيلتُنا لنعبُر من قساوة الجسد إلى رحمانية الله. وبالصوم تُنتزع من النفس كل الأهواء ليسكن فيها جمر المحبة. الصوم هو ملك الفضائل بقدر ما ينزع أدران النفس ويغسلها بالتوبة الصافية لتبرق سلاماً ومحبةً للآخرين. المحبة هي كنز الكنوز والصوم هو خير تعبير عن تلك المحبة وخير سبيل إليها بالقدر الذي يشحذ من النفس أهواء الضغينة والاستكبار ويجلوها بالصَّدَقةِ والعطاء ويغسلها ببريق التوبة والتواضع لينجلي فيها نور قيامة المسيح.

الصوم المقدس مسيرة مصالحة مع الخالق ومع الذات ومع الآخر. هو مسيرة غفران وصفحٍ ومصالحة. وما أحوج إنسان هذا الدهر ومجتمعاته إلى المصالحة والغفران! وهذا ما تشدد عليه الكنيسة المقدسة. فالتوبة هي مصالحةٌ مع الخالق والمغفرة هي مصالحةٌ مع الآخر وهي عينُها قربان حمدٍ وتمجيد لرب السماوات الذي يُسر بنا بشراً متآخين.

الصوم الأربعيني جرن عمادٍ مآلُه قيامةٌ مع المسيح هو مسيرةٌ تبتدئ تحضيرياً بتواضع العشار الذي حنى الرأس فحنى السماوات إليه وبعودة الابن الضال رمزاً لعودة الإنسان إلى الحضن السماوي. الصوم إمساكٌ عن طعامٍ لنضعه في فم الفقير والمحتاج. والنفس الصائمة هي التي تنظر عالم الروح في الأيقونة لتمسي بذاتها أيقونة للمجد الإلهي عبر صالح أفعالها. وهي المستعطيةُ النعمةَ الإلهية التي من دونها لا تلج خدر السيد. وهي التي بقوة صليبه تجتاز مصاعبها مرتقيةً سلم الفضائل لترسو بعَبَرات توبتها على ميناء الرحمة الإلهية. النفس الصائمة بحقٍّ هي التي تفرش للرب الداخل إلى قدس النفس سعف الفضائل وتمخر عباب العمر الفاني متشبّثةً بيد سيدها الذي حطم الموت وخلع عليها وشاح القيامة البهي.

توافينا هذه الأيام المباركة والشرق يرزح تحت صليبه. توافينا والعالم يتخبّط بحثاً عن سلام مفقود وجزعاً من قلاقل. توافينا وكلٌّ منا غارق في همٍّ من هموم حياته وفي قلقٍ وجوديٍّ. لكن كل هذا لا يمنعنا أن ننقب ولو قليلاً ستار واقعنا ونحني ركبة قلبنا أمام الله ليهبنا السلام والتعزية والفرح السماوي.

لقد آن لجلجلة هذا الشرق أن تُدفن تحت عتبة القيامة. منذ فجر التاريخ وهذه المنطقة تدفع من دم وأرواح أبنائها ضريبة الحرب والدمار. ندعو الجميع في كل بلدان هذه المنطقة إلى سلوك روح التلاقي ونبذ التكفير المدان دينياً كان أو خطابياً أو ثقافياً والحفاظ على الوحدة الداخلية. ونحن كمسيحيين كنا ولا نزال من صلب هذي الأرض ومن صلب المجتمعات التي ننتمي إليها ولنا فيها دور أساسٌ في مد جسور التواصل مع الآخر والنهوض معه بكل الأعباء.

نصلي من أجل السلام في سوريا ومن أجل صون استقرار لبنان. نصلي من أجل العراق ومصر وفلسطين والأردن ومن أجل كل العالم. نصلي من أجل أن يغلب تهليل السلام تهويل الحرب وأن يجد السلام طريقه إلى قلوب الناس في الوقت الذي يجد طريقه إلى المؤتمرات. نحن كمسيحيين متجذرون هنا في الشرق في الأرض التي ولدنا فيها. وجه المسيح لن يغيب عن مشرقه الذي ولد فيه. ووجهه راسخ في فلسطين التي ولد فيها وفي القدس التي وافاها. ووجه القدس لا تغيره السياسات فهي قبلة لكل الناس وللمسيحيين والمسلمين خصوصاً.

ولا يسعنا هنا إلا أن نلفت الأنظار إلى قضية مطراني حلب التي تختزل شيئاً من قهر إنسان هذه الأرض الذي يمسي سلعة في سوق المصالح. لقد خطف المطرانان بولس يازجي ويوحنا إبراهيم في نيسان العام 2013 وإلى اليوم ننتظر وينتظر الخيّرون أن ينجلي فجر هذا الملف. إن الأخطر والأكثر إيلاماً في هذا الملف هو هذا التعامي أو التعاجز الدولي وهذا الصمت المطبق تجاه قضيةٍ تختزل بعضاً من معاناة المخطوفين كل المخطوفين، الذين نصلي من أجلهم ومن أجل كل مخطوف ومشرد ومهجر وملتاع وشهيد طالته يد الحرب والتكفير والإرهاب.

نحن في هذا الشرق استمرارية لأصالة وجودٍ وعراقةِ تاريخ. ومنه انطلق آباؤنا وأبناؤنا الأنطاكيون إلى كل الدنيا حاملين إنجيلهم وكنيستهم رغم شظف التاريخ. في الشرق نغرس أقدامنا رغم كل الأهوال وإليه منّا حنين خاص إذ فيه تراب آبائنا وذكريات طفولتنا وفيه رضعنا إيماننا من صدور الأمهات وشربنا معه أصالةً ومحبةً لبلادنا. وإن قوةً في الدنيا لن تجتثنا من أرضنا. لأنها منا القلب والكيان.

بسلام الرب ومحبته أتوجه إليكم ضارعاً إليه أن يديم مراحمه في قلوبكم ويملأ كيانكم من فرحه السماوي، هو المبارك إلى الأبد، آمين.

صدر عن مقامنا البطريركي بدمشق 
بتاريخ الحادي عشر من شباط للعام ألفين وثمانية عشر.