حرارة مشتعلة وسط الثلوج: حوار بين القدّيس سيرافيم…



Q1 تصوّر أنّك رفعت عينيك فجأة إلى قرص الشمس الوهّاج في عز الظهر لتحدّق في وجه إنسان داخل هذا القرص وهو يتحدّث إليك.

موتوفيلوف: بأي طريقة أستطيع أن أعرف أنني في حالة نعمة الروح القدس؟

القدّيس: هذا سهل جدًا يا صديق الرّب: الم يقل السيّد: كلّ شيء ممكن للمؤمن. الرسل كانوا مؤمنين وكانوا يعلمون دائمًا اذا كان روح الله فيهم أم لا، وعندما كانوا يرون الروح كانوا يؤكدون أن أعمالهم صالحة ومقبولة لدى الله.

وهذا يفسّر ما كانوا يكتبونه في أعمالهم "لأنه رأى الروح القدس ونحن" وهم أستنادًا إلى هذه الحقيقة الأساسيّة فرضوا أعمالهم كأعمال أساسيّة لكلّ المؤمنين. فالرسل القدّيسين كانوا يعرفون بطريقة حسيّة وجود روح الله. ألا ترى يا صديق الرّب كم هذا سهل؟.

248_0049162055_Seraphim-Sarov

أنقر على الأيقونة لتتعرّف على سيرة حياة القدّيس سيرافيم ساروفسكي

موتوفيلوف: ولكنّني لا أفهم جيدًا كيف أكون مشمولًا تمامًا بالروح القدس وكيف أستطيع أن أكون الشاهد على ذلك؟

القدّيس: لقد قلت لك هذا سهل جدًا، وحدثّتك كيف يكون الناس في نعمة الروح القدس. ماذا يلزمك بعد؟

موتوفيلوف: أبي.. تكلّمت عن نوال الروح القدس كغاية للحياة المسيحيّة، ولكن كيف أشعر به وأدركه، إن الأفعال مرئيّة، أمّا الروح القدس فغير مرئي، كيف أعرف إن كان فيّ أم لا؟

لقد وضع موتوفيلوف، دون أن يدري، سؤالًا لاهوتيًا له أهميّته القصوى. لقد أثير هذا السؤال مرّات عديدة. وقد أكّد اللاهوت الأرثوذكسيّ بلسان الأباء القدّيسين على معاينة النور غير المخلوق: "الله هو نور وهو يمزج ضياءه بالذين ثبتوا وأتّحدوا به بحسب قياس كمالهم... الانسان يجمع ذاته ويوّحدها بالله روحيًا وجسديًا لأن نفسه لا تنفصل عن روحه ولا جسده عن نفسه. الله يدخل في شركةٍ كلّيّةٍ مع الأنسان الواحد كلّه الذي هو إله بالطبيعة، يتحدّث مع الذين صاروا آلهة بالنعمة... الروح القدس يُصبح داخلهم  كما أخبرتهم الأسفار المقدّسة عن ملكوت الله". (القدّيس سمعان اللاهوتي الحديث القرن الحادي عشر).

الروح القدس هو نور هكذا قال القدّيس سيرافيم إلى موتوفيلوف، ولكن موتوفيلوف كان يبدو أنّه غير مقتنع. فقال: إننّي أريد أن أفهم بأكثر وضوح.

القدّيس: إسمع يا صديقي: الآن كلَينا في هذه اللحظة موجودون في الروح القدس. لماذا لا تنظر إليّ؟

موتوفيلوف: أنا لم أعد أستطيع أن أنظر اليك يا أبي، فإن عينيك يشعّ منهما نور كالبرق الخاطف، وقد صار وجهك يتوهّج أكثر مِن الشمس، وقد أنبهرت عيناي مِن النظر اليك.

القدّيس: لا ترتعب، فأنت أيضًا في هذه اللحظة قد صرت مضيئًا كما صار لي ، فقد أصبحت أنت أيضًا الآن على ملء روح الله، والّا ما كنت تستطيع أن تراني بما رأيتنى فيه.

وإنحنى نحوي (كتب موتوفيلوف) وأسّر في أذنيّ "أشكر الرّب على صلاحه اللانهائي نحونا، وهوذا أنت ترى إنّي لم أعمل شيئًا قط مِن ذلك حتّى ولا إشارة الصليب، ولكن كان يكفي إنّني ناديت الرّب مصليًا بفكري ومِن قلبي قائلًا يا رّب إجعله مستحقًا أن يرى بعينيه حلول روحك الذي تنعم به على خدامك عندما يتراءى لك أن تظهر لهم في بهاء مجدك العجيب وهكذا ترى يا صديقي أن الله استجاب في الحال لصلاة سيرافيم الحقير، علمًا بأنّه حتى الأباء في الصحاري لم توهب لهم دائمًا هذه العطيّة التي بها أستعلن صلاحه. إن نعمة الله كأم مملؤة حبًا وحنانًا نحو أولادها، رأت أن تعزّي قلبك المضطرب بشفاعة أم الله... فلماذا أراك يا صديقي لا تريد أن تحدّق في وجهي؟ أنظر فيّ بحريّة فالرّب معنا الآن."

فلمّا شجّعني بهذه الكلّمات تطلّعت إليه فغمرني خوف مقدّس.

تصوّر أنّك رفعت عينيك فجأة إلى قرص الشمس الوهّاج في عز الظهر لتحدّق في وجه إنسان داخل هذا القرص وهو يتحدّث إليك.

كنت ألحظ تحرّك شفتيه وملامح عينيه وأسمع صوته وأحسّ بيديه وهو ماسك كتفي، ولكنّني لم أستطع أن أرى يديه ولا باقي جسمه، فالكلّ غاب عن بصري ماعدا النور المتوهّج الذي يحيط به والذي يشعّ منه فيسقط على الثلج الذي يغطّي الأرض مِن حوله ويضيء قطع الثلج المتساقط علينا مِن السماء.

القدّيس: بماذا تشعر؟

موتوفيلوف: بسعادة تفوق الوصف.

القدّيس: أي سعادة؟ حدد بالضبط.

موتوفيلوف: أشعر بهدوء وسكينة وسلام في نفسي لا أستطيع أن أجد كلمةً تعبّر عنها.

القدّيس: اسمع يا صديقي: هذا هو سلام المسيح الذي وعد به: سلامي أعطيكم، سلامي أترك لكم. السلام الذي لا يستطيع العالم أن يعطيه، السلام الذي يفوق كلّ عقل، ولكن بماذا تشعر أيضًا؟

موتوفيلوف: بسرور لا حد له داخل قلبي.

القدّيس: حينما يأتي الروح القدس ويحلّ على إنسان ويحيط بملئ وجوده تفيض النفس بفرح لا يُنطق به لأن الروح يملئ كلّ ما يلمسه السرور. فإذا كان باكورة الفرح السمائي قد ملأ قلبك بهذه اللذّة وهذه السعادة، فماذا تقول في الفرح الذي سنناله في الملكوت الذي ينتظر كلّ الذين ينتظرونه الآن على الأرض؟!! 

وأعلم يا صديقي أنّك وإن كنت قد بكيت أيضًا هنا في غربتك على الأرض فأنظر أي فرح أرسله لك الرّب ليعزّي قلبك أيضًا الآن هنا، مِن أجل ذلك ينبغي أن نجاهد في الحاضر حتى نبلغ إلى قياس قامة ملء المسيح ونتشدّد أكثر فأكثر، لأنّه حينئذٍ يتحوّل الفرح الجزئي المؤقّت الذي نحسّه الآن، ويستعلن في ملء كماله ليغمر وجودنا كلّه بمسرّات لا يُنطق بها ولا يستطيع أحد أن ينزعها منّا.

إن السيّد يُعطي السّلام الذي تشعر به الآن لجميع الذين يكرهون العالم الذين أختارهم هو، وماذا تشعر أيضًا؟

موتوفيلوف: إنّني أشعر بعذوبة لا توصف.

القدّيس: فتابع الأب سيرافيم كلامه قائلًا: إن هذه العذوبة هي التي كتب عنها "مِن عذوبتك ترويهم"، هذه العذوبة تملأ عروقنا لذّةً لا توصف وتذيب أفئدتنا وتغمرنا ببهجةٍ يعجز كلّ لسان في العالم عن وصفها، وماذا تشعر أيضًا؟ ليس على الأرض شيء أكثرعطرًا وأذكى رائحةً من العطر الذي أشتّمه، وليس على الأرض زهرة تعطي هذه الرائحة.

فتابع الأب سيرافيم كلّامه بهدوء: أنا أعلم هذا وقد سألت عن قصد بماذا كنت تشعر؟ نعم أن ما تقوله يا صديق الرّب صحيح. ليس على الأرض رائحةً أذكى من التي تفوح حوّلنا، لأن هذه هي من الروح القدس وهل على الأرض من يسبّبه هذا؟!.. وماذا أيضًا يا ولدي؟

موتوفيلوف: أشعر بحرارةٍ لا توصف!!

القدّيس: كيف يا صديقي ونحن الآن في غابة في فصل الشتاء وتحت أرجلنا الثلج، كما أن الثلوج تتساقط، ومازالت تتساقط فوق رؤوسنا؟ كيف تشعر بالحرارة وما هي هذه الحرارة؟

موتوفيلوف: هي نفس الحرارة التي أشعر بها في فصل الصيف وفي صميم الشمس...

القدّيس: إن هذه الحرارة ليست في الهواء ولكنّها فينا. إنّها الحرارة التي نطلبها مِن الله باتضاعٍ في صلواتنا. حين نقول "ألهبني يا رب بحراة الروح" لذلك لا يخاف النسّاك والمتعبّدون برد الشتاء لأنّهم متسلّحون بهذه الحرارة ومتسرّبلون برداء الروح القدس.

إن نعمة الروح كائنة باستمرار فينا لأن الرّب يقول: ها ملكوت الله داخلكم. نعمة الروح القدس هي التي تنيرنا وتدفئنا وتملأ الهواء المحيط بنا عطرًا، وتملأ قلبنا فرحًا عظيمًا. إن الحالة التي نحن فيها الآن هي التي قال عنها الرسول "إن ملكوت الله ليس أكلًا وشرابًا بل هو بر وسلام وفرح بالروح القدس" إن إيماننا لا يَستند إلى الأراء الحكيمة المقنعة بل إلى برهان الروح وقوّته. نحن مِن هؤلاء الذين قال الرّب عنهم: "إن قومًا من الذين ههنا لا يذوقون الموت قبل أن يروا ملكوت الله آتيًا بقوّة".

هذا هو الفرح العظيم الذي جعلنا الرب أهلًا له كما قال القدّيس مكاريوس المصرى: "الحياة في غمرة الروح القدس، لقد كنت أنا في صميم نعمة الروح القدس".
أعتقد الآن أنّك لست بحاجة بعد هذا أن تسأل كيف يكون الأنسان في حالة نعمة الروح القدس. من الآن لا تعد تسألني عن كيفيّة استعلان الروح القدس بصورة مرئيّة. هل سيبقى هذا الاستعلان الواضح في ذاكرتك؟

وأشعر شعورًا مؤكدًا أن الله سيساعدك أن تحفظ كلّ شيء إلى الأبد في ذهنك. والّا ما كان قد استجاب إلى صلاة الحقير سيرافيم خصوصًا وأن استعلان الروح القدس ليس لك وحدك بل للعالم كلّه عن طريقك. تقوّى في إيمانك، وستكون مفيدًا للآخرين.إذهب وأخبر وبشّر كل فردٍ توّاق إلى الخلاص في النعمة التي اختبرتها، لا تدفن الفضة التي أودعت اليك مثلما فعل العبد الكسلان... لا شيء مستحيل للمؤمن، إسأل وستستجاب كلّ طلباتك اذا كنت تصلّي لمجد الله وفائدة إخوتك.

الرب يعرف أنّنا نحتاجها لكي تجعل الطريق الصعب الذي نخوضه أكثر سهولة لنا. أي لا يفصل سعادتنا عن مجده. إنّه يريدنا أن نحمل بعضنا أثقال بعض. كلّ شيء نعمله لأصغر إخوته سيعمل لنا أيضًا. كوني راهب وأنت علماني ليس لها أهميّة.

الرب ينصت لكلا الراهب والإنسان الذي في في العالم لو كان كلاهما مؤمنًا. (القدّيس سمعان اللاهوتي الحديث).

الرب ينظر إلى كلّ قلب مملوء بإيمان حقيقيّ لكي يرسل فيه روحه، لأن قلب الأنسان قادر أن يحوي ملكوت الله، الروح القدس وملكوت الله واحد.

وختم القيس سيرافيم: لقد أخبرتك الآن بكلّ شيء، امض بسلام، الرب يكون معك وأمّه القدّيسة. آمين.

وشرح موتوفيلوف إنّه أثناء الحديث من اللحظة التي أضاء فيها وجه الأب سيرافيم لم تتوقف رؤية النور، شاهدت لمعانه غير الطبيعي بعيني هذه، وأنا على استعداد أن أشهد وأبصم على ذلك.

 

> أنقر هنا لقراءة سيرة حياة القدّيس سيرافيم