جئت لأكمل، لأجمع شمل الكنيسة، لأشد من بنيانها…



2013-12-22

p1كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في الذكرى السنوية للمثلث الرحمة إغناطيوس الرابع
الكنيسة المريمية،

 


 شاء الرب أن تكون زارعاً، لا حاصداً، فالزرع بيد الإنسان. أما الحصاد فبِيَد الله. ولا ثمر بدون زرع. والحقُّ أن الراحل العظيم ما فتئ يغرس منذ ترقيته السدة البطريركية سعياً وراء ثمارٍ تجنيها الكنيسة ويجنيها العالم لمجد الله.

هذه ليست كلماتٍ خطّها يوحنا العاشر بل اقتبسها حرفياً مما جاء في حفل تأبين البطريرك الياس الرابع سنة 1979. هذه كلماتُ مطران اللاذقية إغناطيوس هزيم، من على هذا المنبر بالذات، في تأبين من رسم له الروحُ أن يستلمَ منه دفّةَ كنيسةِ الرسولين. هذه كلماتٌ لم أجد أحلى منها، يا سيدنا إغناطيوس، ولم أجد أنسب منها لألقي الضوء على ثلاثين سنة ونيف سَلمت فيها العناية الإلهية دفة أنطاكية إلى عنايةِ ربان حكيم عرف كيف يسير بالرعية ويوردها ينابيع الخلاص.

"شاء الرب أن تكون زارعاً، لا حاصداً". قلتَها يا سيدي للسلف. وها نحن من جديد نقولها لك. ونرجو بمعونة الرب وشفاعة العذراء والقديسين وصلواتكم جميعاً أن يؤهلني الرب الإله لأن أكون زارعاً ومتمماً مسيرة الأب والأخ والسيد والراعي إغناطيوس الرابع "سعياً وراء ثمارٍ تجنيها الكنيسة ويجنيها العالم لمجد الله.

ماذا زرعَ البطريركُ إغناطيوس وماذا اجتَنَتْ الكنيسة والعالم؟ Ignatius

زرَعَ البطريرك، من جملة ما زرع، بذرتين. ولتسمحْ محبتُكم لي بالاكتفاء بهما، إذ إن الكلام عن إغناطيوس الرابع يطولُ ويطول.

البذرة الأولى، شتلها في حقل الكنيسة الأنطاكية وحدةً أنطاكيةً في زمن تصدّعت فيه مجمعية أنطاكية لبعض الوقت. لسنا هنا لننبش التاريخ بل لنضيءَ على فضل إغناطيوس الرابع وحكمته في لجم تصدعٍ أنطاكيٍ ورثه في أول عهده، فداراه بالمحبة والحكمة وآثر فيه استخدام لغة المحبة على لغة القانون الجامدة. لقد عالج البطريرك هذا التصدع، بمنطق الرويّة والتبصر، بمنطق "الروح الذي يحيي" لا بمنطق "الحرف الذي يميت" وصان فيه عروسة المسيح في أنطاكية جسماً واحداً. ولعل أحلى ما قاله غبطته وقتها، وما نحن مدعوون إليه حتى في يومنا هذا هو ما جاء على لسانه كالتالي:

"قل لي بربّك -قالها البطريرك لمحاوره- هل من المعقول أن أقوم بعملية تنظيرٍ في الكنيسة... أنا جئت لأكمل، لأجمع شمل الكنيسة، لأشد من بنيانها المرصوص، فتطلّ إشراقتها على الجميع".

بهذه الكلمات تُختصر سياسة إغناطيوس الرابع الذي رأب الصدع آنذاك، وجمع شمل الإخوة. وإن التروي والاحتكام إلى صوت المحبة والتمييز أقدر في كثيرٍ من الأحيان من الارتكاز إلى لغة القانون على أهميتها وضرورتها.

والبذرة الأخرى التي غرسها البطريرك الراحل كانت هنا، حيث نحن الآن. كانت نموذجاً أنطاكياً متكاملاً اسمه البلمند، منارةٌ للكورة وللبنان وللمشرق كله، ملتقىً للتاريخ مع الحاضر واستشرافاً منه للمستقبل. وهنا أيضاً أستسمحك، يا سيدي البطريرك، أن أتلو على مسامع أحبتي بعضاً من كلماتك في هذا الصدد مقتبساً:

"وفي السنة 1962 انتخبتُ أسقفاً، ووكيلاً بطريركياً، فنقلت إلى دمشق إلى الدار البطريركية. وهناك وجدت أني لا أستطيع أن أؤدي الخدمات التي أتمناها، فاستأذنت من غبطة البطريرك ثيودوسيوس –رحمه الله- أن أذهب إلى مكانٍ يتطلب العمل، وطلبت من غبطته أن يرسلني إلى دير البلمند. وأتذكر أنه قال لي يومها: أنت الآتي من بيروت، كيف تستطيع أن تعيش في مكان خرابٍ كالبلمند، فكانت ثقتي كبيرة لدرجة أنني قلت له: "حيث أكون، يا صاحب الغبطة، لن يكون هناك بإذن الله خراب".

وها هي الأيام تثبت ما قلته يا سيدنا. والبلمند، بديره المبارك الغارق في القدم، قد غدا صرحاً أنطاكياً تلاقت فيه صلوات الدير وغصنه الندي- معهد اللاهوت مع ثانوية البلمند وأولِ جامعةٍ أرثوذكسيةٍ مشرقيةٍ صروحاً تبني إنسان هذا المشرق، مهما كان انتماؤه، وتغذيه بحب الله والوطن والقريب. البلمند، كما كل أنطاكية، فيه شيء من روح إغناطيوس الرابع وهو الذي سقى هذه التلة بعرق أتعابه، أسقفاً ومتروبوليتاً وبطريركاً.

تفتقد كنيسة أنطاكية في هذه الأيام إغناطيوس الرابع وتسأله أن يصلي من حيث هو من أجل سلام المشرق المعذب والعالم كله. تذكرك يا سيدنا في هذه الأيام محردة وبيروت والبلمند واللاذقية ودمشق. تفتقدك سوريا ويفتقدك لبنان ويطلبان منك، أنت الذي افتقدتهما بجزيل أتعابك، أن تفتقد بنيهما أينما حلوا بخفر صلاتك العذبة إلى الخالق المعطاء.

"شاءك الرب أن تكون زارعاً". فصلّ لمن استلم الأمانة من بعدك واطلب من رب الحصاد أن يرسل عملةً إلى كرمه. رحمك الله وأعطانا بركة صلواتك.