أنّى لي أن أنسى وداعتَكَ يا سيدَنا بولس (بندلي)؟



2013-07-20

من كلمة البطريرك يوحنا العاشر في طرطوس


السبت 20 تموز 2013


إخوتي وأحبّتي


آتيكم اليوم إلى طرطوسَ، أنا مَنْ أتيتُ إليها مراراً وتكراراً، طفلاً وشاباً وكاهناً، آتيكم اليومَ وأنتصبُ أمامكُم على هذا الكرسي كبطريركٍ لكنيسة أنطاكية. لذا، أنحني أمام محبّتكم وطِيْبِ نفوسِكم طالباً أن تصلُّوا من أجلي. أطلب إليكم أن تذكروا يوحنا العاشر في عَبَقِ بخورِ دعائِكُمْ الذي يرتفع مقبولاً إلى ربّ السماء والأرض، تماماً كما يذكُرُكم هو أمام حنوِّ البتول مريمَ شفيعةِ هذه الكنيسةِ المقدسةِ وهذه الرعيةِ المباركةِ المحروسةِ بنعْمَةِ الله.

وإذا ماتحدَّثْتُ عن هذه الرعيةِ المباركةِ، رعيةِ طرطوسَ العزيزةِ، يطيبُ لي أولاً ذِكْرُ من أوْكَلَ إليهمِ الربُّ العليُّ القديرُ أمر السهر عليها وعلى خِدمتِها.

أنّى لي أن أنسى وداعتَكَ يا سيدَنا بولس (بندلي)؟ يا راعيَ عكارَ الرحيمَ، فعلاً وإسماً. وليس لي أن أنْساكَ راعياً لَمْ يَثْنِ هِمّتَهُ لا طولُ المسافات ولا طولُ السنين، لمْ يَثْنِ همّتَه لا عبورُ الحدودِ ولا اجتيازُ المشقّاتِ. ألا اضرعْ أيها الراعي الرحيمُ إلى ينبوعِ الرحمةِ الإلهيِّ أن يحميَ أبناءك في طرطوس وفي سوريا بكامِلِها، وأن يظلِّلَهُم بوافرِ عنايتِه. 

أنّى لي أن أنسى رفيق الدربِ الرعويّ والخدمةِ الكنسيّةِ، أسقفَ طرطوسَ وصافيتا سابقاً وملاكَ عكارَ الحاليَّ، "ذا الكهنوتِ الملوكيِّ"، سيادةَ الأخِ باسيليوسَ (منصور)، الشامخَ شموخَ بُرجِ صافيتا، والصدرَ الرَّحْبَ رحابةَ سهلِ عكّارَ! الذي تعب وعمل في هذه الأبرشية وها هي ثمار أتعابِه، وعلى كافةِ الأصعدةِ، تصرخُ بابتهاجٍ "مستحق". أطال الله بعمرِك إلى سنين عديدة.
نعم أيها الأخُ الحبيبُ، أسألُ الربَّ القديرَ أن يُجزلَ عليك، وعلى السادة الأساقفة المساعدين لك في أبرشيةِ عكارَ، مِنْ مَعينِ بركاتِه ويَشْمَلَكَ، وإياهُم، بِوافِرِ حمايته قائداً دَفّةَ المركبِ في عكار ومورداً إياه مراسيَ الخلاص.

أما أنتَ أيها الحبيبُ أثناسيوس، قواك الله ذُخراً لرعية الرب المباركة في طرطوس. عَرَفْتُ فيك رَجُلَ الإيمان الصلبِ ورفيقَ وُعورة الدربِ، الدربِ الذي يَلينُ ويحلو مَسْلَكُه عندما ننظرُ وجه الربِّ ونستمدُّ من ثناياهُ مَوَاطِنَ القوةِ. قواك ربّي وسدَّد خطاك.

كما يطيب لي، ومن على هذا المنبر المقدس، أن أحيِّيَ جميعَ أبناءِ أبرشيةِ عكارَ في سوريا ولبنان، في الوطن وفي بلاد الانتشار. أحييهِمْ مسلمينَ ومسيحيين. أحييهم وأطلب إليهم جميعاً أن يصلّوا كي يُغدقَ علينا الربُّ العلي القديرُ من فيض مراحمه فيسودَ السلامُ والطمأنينةُ أرضَ سوريا الغالية وتشرقَ جبالُ لبنانَ رونقاً وقرارةَ عينْ.
أبرشيةُ عكارَ فَلْذةٌ من كَبِدِنا وهي الأمينةُ والشاهدةُ على وَحْدةِ كرسينا الرسوليِّ الأنطاكيِّ المقدسِ في سوريا ولبنان وفي أرجاء المعمورة كلها. عكارُ هي ابنةُ أنطاكيةْ البارةُ المستظلّةُ بِفَيءِ جبالِ لبنانَ الشامخةِ والمستلقيةُ في قلب سوريا الدافئ.

كما يحلو لي أن أخاطبَ، ومن قلب طرطوس، كل أبنائها وأقولَ لهم: في طرطوسَ تركتُ قِطعةً من قلبي وبعضاً من فؤادي. تركتُها لتتَّحدَ بقلب كلٍّ منكم. تركتها يومَ أتيتكم راعياً وأباً في أوائل التسعينات. تركتُها وسلّمتُها لأناسٍ انجبلت قلوبهم بخميرة الإلفة وانعجنت أحاسيسهم بالطيبة الخالصة فنضجت نفوسهم على صاجِ محبّة الرب. وأسمح لنفسي أن أُبديَ فيك فيضَ قولٍ يا طرطوسُ وأقولَ: أأستطيعُ أن أنساكِ وأنا مازلتُ أذكرُ عندما كنتُ آتي إليك، وأنا طفلٌ، إلى بيتِ جدّي؟ بوركتم يا أبناءَ طرطوس، بوركتم يا قطعةً من جسد بلادي، بوركتم يا شموساً مضيئةً يصُحُّ فيها قول خليلْ مَرْدَمْ بِيكْ، كاتبِ النشيدِ الوطنيِّ السوري:
 فأرضٌ زَهَتْ بالشّموسِ الوِضا    سماءٌ لَعَمْرُكَ أو كالسما

ومن طرطوسَ سلامي لجارتِها وعروسِ شطّها، لأرواد ولسكان أروادَ الأكارم. سلامي لأروادَ الهائمةِ على مياه المتوسط، والهائمةِ حباً بالوطن الأم سوريا. سلامي لقلعة أرواد التي ضمت بين جدرانها خيرة أبناء سوريا، مسلمين ومسيحيين، أيام الانتداب الفرنسي، وعلى رأسهم فارس الخوري ، فغَدت بِذلكَ أمثولةً وصورةً لما كُنّا، وما نحن، وما سنبقى عليه، من لُحمةٍ وطنيةٍ نحن السوريين.

أحبائي وأبنائي،

آتيكم اليوم إلى طرطوسَ في تذكار النبي ايلياس الغيور. وقد كُنّي بذلك لأن غيْرةَ الرب تآكلت قلبَه وكَيانَه؛ لأن غيرةَ الرب تلظّت في قلبه فاستحال كَيانُه أتونَ نارٍ ملتهباً بعشق الرب. لطالما ترنّم النبيُّ إيلياس بعبارةٍ ولا أحلى وهي "حيٌ هو الرب". ومن ثنايا هذه الكلماتِ الثلاثِ أخاطبكم يا أحبائي، مع جميع إخوتنا في تراب هذا الوطن العزيز، وأقولُ:

حيٌ هو الرب الذي أغدق علينا من مَعين خيره وأنبتنا من رَحِمِ هذه الأرضِ الطيبةِ، أرضِ سوريا الغالية. حيٌ هو الرب الذي غرسنا كلَّنا في هذه الأرض، أرضِ الشامِ المباركة. حيٌ هو الرب الذي خلقنا على تنوعِ أطيافِنا ومعتقداتِنا لنَنقُلَ إلى الدنيا بهاءَ طَلْعَتِه، والذي علّمَنا أن الوطنَ للجميع وأنه يسمو بأبنائه. حيٌ هو الرب الذي حبانا أرض سوريا لتكونَ أرضَ سلامٍ لا بل مَعينَ سلامٍ للبسيطة بأسرها. حيٌّ هو الرب الذي باركَنا، نحن أبناءَ هذا البلد العزيز، وارتضى لنا، ومن غابر الأيام، حياةً مِلْؤها التآخيْ والوئامُ. حيٌ هو الربُّ القادر أن يُلهم الجميعَ إلى ما فيه سلامُ هذه البلاد ولجمُ العنف فيها، والقادرُ أن ينقذها من كَبْوةٍ ويسربِلَها المجدَ من جديد. حيٌ هو الرب الذي سرَّ وشاءَ أن يجمعَنا في طرطوسَ، ابنةِ سوريا، وجارةِ لبنان. حيٌ هو الرب الذي يحفظ ياسَمِينكِ سوريا، ويَزُودُ عن أرزكَ يا لبنان.

حيٌ هو الربُّ العليُّ القديرُ الذي شاء أن نتآخى مسلمين ومسيحيين، في ظلّ شامِنا. والذي ارتضانا في هذه الأرض أُنموذجاً لعيشٍ كريم، يكون الواحد منا فيه للآخر مُعيناً وغوثاً وسنداً وتعزية. حيٌ هو الرب، لأنه لم يرتضِ يوماً، ولن يرتضي، أن يتسربل كائنٌ مَنْ كانَ وِشاحَ الدِّيْنِ ليبثَّ الفرقة بين الناس والشعوب. حيٌ هو لأنه رصّع تراب الشام بأجساد أبناءَ برَرةٍ لم يعرفوا يوماً، ولن يعرفوا، في الدين سبيلاً ومدعاةً لبذرِ الشّقاق والتفرقةِ، بل سبيلاً للمحبةِ والإلفةِ والوحدة بين أطياف بلادنا. ولهذا، بجرأةٍ ومحبةٍ، أخاطبكم، إخوتي المسلمين وأقولُ: بين "النحن والأنتم" تذوب الواو وتختفي. يُذيبها تاريخٌ مشتركٌ، يذيبُها تراث وطنٍ، يُذيبها تسامحٌ ديني لطالما عُرفت وتُعرَفُ سوريا به. يُذيبها ثلجُ حرمونَ الذي تَشاركْنا سوياً في الدفاع عنه. تُذيبها كنائسُ ومساجدُ القدسِ الشريفِ التي نتوق إلى ثَرَاها. يذيبها مصيرٌ مشتركٌ وتلاحمٌ مطلوبٌ لما فيه خير هذا الوطن، يُذيبها ترابُ سوريا الذي ائتمَنَنَا اللهُ على وَحدتِه، تذيبها صفحات التاريخ الخالدة، كما نوائبه أيضاً، التي صَهَرتْنا سوياً في بوتقة الوطن الواحد.

أيها السوريون، أناشدُكم جميعاً، لكي تحُلَّ رنّةُ المعولِ في سوريا محلَّ ضربة السيفِ. رنةُ المعول الذي نبني به الغدَ أبلغُ وأحلى من رنةِ السيفِ، والحلُّ بالحوار وقبول الآخر والانفتاحِ نحوهُ. والكل مدعوٌ، في الداخل والخارج، لتبنِّي منطقِ الحوار والحلِّ السياسيِّ سبيلاً لنصونَ سوريا، ولِنحفظَ وحدةَ ترابِها من عين ديوارِها إلى مجدلِ شمسِ جولانِها، ومن فُراتها إلى بانياسها وطرطوسها زينةِ قِلادةِ بَحرِها.

أعودُ لأقول، حيٌّ هو الربّ الذي صان كنيسته الأنطاكية، وأبناءها مسيحيي هذا المشرق، فتوشّحت وتوشّحوا باسمه على مر التاريخ. حيٌ هو لأنه أرادنا، نحن المسيحيينَ، في هذه الأرضِ الخيّرةِ مِشعَلاً يقودُ إلى ساطع مجده ومنارةً تُرشد إلى ضِعة مزوده. حيٌ هو لأنه علّمَنا أن النوائبَ مهما عظُمَت لا تقدر أن تجتَثَّنا من أرضِنا لأننا فيها وُلِدنا وفي ثراها نموت. حيٌ أنت ربي، لأنك علَّمتَنا أن قريبَنا وجارَنا هو مذبح الله وأن غَوْثَ الملهوفِ وقتَ الشدة، لمقبولٌ لديك أكثرَ من كلِّ القرابين.

كما يطيب لي ومن على هذا المنبر أن أعزِّيَ قلبَ كل أم وكلِّ أبٍ وكلِّ شقيقٍ التاع لفقدان الأحبة، وأن أعزِّيَ بشكلٍ خاص ذوي الشهداءِ الذين سقطوا في الأحداث الأخيرة التي تعصف بسوريا. ربّ، عزِّ قلبَ كلِّ أمٍ اكتوى بنار فقدان حبيبٍ لها وامسح برحيقِ محبتِكَ دموع أحبّتك وبَلْسِمْ جراحَ الافتراقِ بِطيبِ عزائك. ربِّ واسِ قلوبَ أحبّتك المهجّرين الذين هجّرتهم هذه الظروف الصعبة، لكنها لم تهجّرهم عن محبةِ سوريا وطناً غالياً يستوطن فيهم القلبَ والكيان. أعطهم يا ربُّ تعزيتك الإلهية واغمِدْ في صدُورهم الصبرَ والرجاءَ، وأعدهم إلى ديارهم سالمين.

أختم وأقول: حيٌ أنت ربُّنا البارئُ لكلِّ نسمةْ، والمنجدُ في كل أزمَةْ. حيٌ أنت، لأنك علّمْتَنا أن قوتَك في الضعف تكمن وأن سلامكَ في القلب يركُنْ، وأنك لا ترتضي السُّكنى إلّا في القلب الذي التحف الرجاء بِكَ سبيلاً والفوز برحمتكَ مبتغىً. ألا بارككم، جلَّ جلالهُ، بوافر رحمتهِ، وحفظَكُم، وحفِظَ سوريا والعالمَ أجمعْ، له المجدُ والرِّفعةُ أبدَ الدهور، آمين.