هل تفهم ما تقرأ؟



يُطلعنا الكتاب المقدّس في سفر الأعمال في الإصحاح الثامن على الحوار الذي دار بين الشمّاس فيلبس الرسول ورجل حبشي خصي وزير لكنداكة ملكة الحبشة في الطريق إلى أورشليم.

philipos  كان الوزير يقرأ في أشعياء النبي " فكان هذا مثل شاة سيق إلى الذبح، ومثل خروف صامت أمام الذي يجزّه، هكذا لم يفتح فاه "

الشيء الملفت في هذا الحوار ما سأله فيلبس للوزير: " ألعلَّك تفهم ما أنت تقرأ؟ " ولكن الأجمل من السؤال جواب الوزير:" كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد." وطلب إلى فيلبس أن يصعد ويجلس معه.

وفي نهاية الحوار اعتمد الوزير وإختفى فيلبس. 


 هذا الحوار الرائع هو عبرة لكل الأزمان، وهو يؤكّد في طيّاته
:

-       أن الرّب يسوع هو لكلّ الأمم.

-       الحاجة لأناس ملهَمين من الروح القدس لتفسير الكتاب المقدّس.

-       أن التواضع هو باب الحياة الجديدة بالمسيح يسوع.

-       ضرورة أن يأخذ الإنسان موقفًا بعد معرفته للحقيقة.

* في الماضي، تحدث العبرانيون عن ال"بسورة" أي البشارة وهي بشرى الله بخلاص الشعب.
وقد أدرك كلّ من حمل هذه البشارة وعاش عليها مغزى نبوءة إشعياء النبي بشأن المخبر بالسلام، المبشّر بالخير، المخبر بالخلاص(52\7).

 هذا الخلاص تحقّق في شخص المسيح يسوع: " روح السيّد الرّب عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين"(اش61\1).

هذه البشارة خبرها الرسل، بعد العنصرة بخاصة، حدثاً قيامياً تحققت فيه كلّ نبوءات العهد القديم، فكانت أجمل خبر وأسرّ بشرى، وكانت كلمة "إنجيل" التي تعني الخبر السار.

وإذا كانت الشعوب سابقاً بحاجة الى مخلّص، وبدأت بناموس وسمعت نبوءات بلسان أنبيائها، فلكي تتهيأ لاستقبال المخلص، مشتهى الأمم، وتحيا معه في الروح القدس إلى مدى الدهور.

كلا، لم يأت الكتاب المقدّس إلى نهاية بعد، لأنّ الآب لا زال يعمل، بالابن، في الروح القدس. وبعيشنا للكتاب نكتشف أن الله لا زال يكلّمنا كما كلمّ أنبياءه قديماً، وهو يدعونا الى التوبة كما دعا شعبه أنذاك.

ليس الكتاب المقدّس، إذاً، كتاباً بالمعنى الجامد للكلمة، بل هو كتابٌ حيّ، حضورٌ الهيّ، حياة مطردة في المسيح يسوع بالروح القدس.

الكتاب أيضاً مدوّنات، بلغة الناس، وضعها قومٌ بروح الله ولا يفسّرها سوى أناس ملأهم الروح عينه. "بنورك نعاين النور".

الله يُظهر نفسه لنا، ولا يتلقّفه الاّ من سعى إليه.

صحيح أن الكتاب موحى به من الله، إلاّ أن الوحي لا يلغي فرادة كلّ واحدٍ من الذين شاركوا في كتابته، سواء من الناحية اللغوية أو من الناحية اللاهوتية.

jj الله لا يلغي الإنسان ولا الإنسان دون الله. والأسلوب الكتابي فيه ليس إلاّ اناءً لتدبير خلاصي مع التشديد على أن القلب والقالب يشكّلان حقيقة واحدة متلاصقة متلاحمة للمضمون اللإلهي ومجريات الأحداث فيه. والصلاة الحارة هي وحدها الكفيلة بان توقظ في الذكاء البشري قوى لا طاقة للتدريب الفكري، مهما ارتقى، على إنشائها.

وهذا ما أتى على تأكيده قدّيسنا الخطيب يوحنا الذهبي الفم سواء كان بتواضعه وصلاته المستمرّة واصوامه وجهاداته ونسكه، وسواء بأبتعاده عن المعايير المنطقية والفلسفة في تفسيره للكتاب وآياته، وبأعترافه مجاهرةً بمحدودية الفكر البشري دون العون الإلهي، وتأكيده على نيل التوجيه الروحيّ الصحيح  من جهة معلّمينا الأوفياء.

كذلك يؤكّد القدّيس أثناسيوس الكبير أن دراسة الكتاب المقدّس ومعرفته بالحقيقة تتطلّب حياةً صالحةً ونفسًا نقيّةً وفضيلة لائقة بالمسيح، حتى إذا ما استرشد بها العقل استطاع أن يُدرك الله الكلمة.
ويكمل  فيقول من أراد أن يُدرك فكر الناطقين بالإلهيّات يجب عليه أوّلًا أن يغسل نفسه ويقوّم حياته ويقترب إلى القدّيسين بالتشبّه بأعماله، حتى إذا ما اشترك في سيرتهم استطاع أيضًا أن يفهم ما أعلنه الله لهم.                 

 وفي تأكيد تسليمنا الشريف (التقليد) أن حياة التقوى تبقى الضامن الأساسي لتناولنا الكتاب المقدّس، يقوم أباؤنا القدّيسون في تحذيرنا مما يجب تجنّبه:

-         أن نقول أنّنا قرأنا الكتاب المقدّس.

-         أن نهمل إكمال قراءة نص ابتدأنا به مدّعيين أننا نعرف نهايته أو ما سيتبع.

-         أن نكتفي بقرأة أولى للنصوص الكتابية مدّعين استيعابها. فإن لكلّ إعادة قراءة اكتشاف جديد بالروح القدس.

-         أن نسلخ جملة من الكتاب المقدس ونستعملها بغير الإطار الذي وُضعت فيه.

-         ألاّ نسأل كنيستنا وآباءنا عندما لا نفهم ما نقرأ.

-         أن نفصل عقلنا عن قلبنا اثناء قراءة الكتاب المقدّس وبالتالي يصبح الكتاب بحث علمي وتاريخي وأدبي ونقدي لا عيش إلهيّ وصلاة.

-         أن نعتبر أن الكتاب المقدّس يفسّر نفسه بنفسه لمجرد قراءته وتفحّصه علمياً.

-         أن نجعل من أنفسنا مرجعاً واضعين جانباً تفاسير من عاش الكتاب المقدّس بالزهد والصلاة والتقوى والطهارة والإيمان، مطهّراً نفسه من كلّ أهواء الجسد والروح ومكمّلاً القداسة في خوف الله.

-         أن نفصل الكتاب المقدّس عن الحياة الليتورجية المقدّسة في الكنيسة.

-         أن يصبح الكتاب المقدّس كتاب نظريات شخصيّة لا كتاب التدبير الإلهيّ.

-         أن ننسى أو نتناسى أن الإنجيل كُتب على يد أشخاص باتوا سكنى للروح القدس وبهذا الروح يُقرأ الكتاب ويُفهم.  

-         أن ننسى قول المصطفى: يا بني تيموتاوس، كلّ الكتاب هو موحى به من الله.

-         ألاّ نشارك بطرس الرسول في قوله أن كلّ نبؤة الكتاب ليست من تفسير خاص ولم تأت بمشيئة إنسان، بل تكلّم أناسُ الله القدّيسون مسوقين بالروح القدس.

-         أن نتغافل عن تأكيد بولس الرسول لنا أن كرازته لم تكُن بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح لكيّ لا يكون إيماننا بحكمة الناس بل بقوّة الله.

-         ألاّ نعيّ أن في كلّ مرّةٍ نقرأ الكتاب فيها نكتشف بالروح القدس شيئًا جديدًا.

-         أن نتستغّيب ما يدعونا الله إليه من خلال الكتاب المقدّس في حياتنا اليوم.

-         ألاّ نجعل من الكتاب المقدّس رفيقنا الدائم.