الصّوم: حجُّ ملكوتيّ



في الأسبوع الأخير من فترة التهيئة الواقع بعد أحد مرفع اللحم تعلو الصلوات لتخبرنا عن الصيام الآتي:"إن استقبال عيد الامساك لمبهجٌ وابتداء الصيام في هذا اليوم لَمُضيءٌ... هلمّ أيها المؤمنون لنستقبل زمان الصيام الشريف المقدّس بنظام هادىء وعزمٍ نقي طالبين الغفران... (سحر الإثنين)"


وترتبط الصلوات بإطعام الجياع والابتعاد عن معاداة الآخر وعن الزنى والكذب... cc1

كما توضح أن للصيام قوةً للتغلّب على حيل الشيطان إن أُتقن جيّدًا. وبالمقابل تضع الصلوات أمام المؤمنين صفوفًا من الآباء القدّّيسين كقدوة ومثال لهم في رحلتهم نحو القيامة.

* إذاً، الصوم هو حالة يدخل فيها المؤمن ليتعرّى من الأهواء والشهوات، ويسلك مسيرة الصلوات والمحبّة والتوبة والغفران. فلا شيء مجتزأ بل وحدة كاملة ومتكاملة.

* يقول الأب ليف جيلله: إن الصوم هو زمان تربية روحية واستنارة. أي أنّه عودة إلى الله وإلى نعيمه. ألم يخسر آدم فردوس نعيم الله بظلمة الكبرياء والعصيان؟ أولا يعود إليه بالتواضع والإلتزام بمشيئة الله؟ فالخروج من الفردوس لم يكن أبديًّا لأن باب الرجوع دائمًا مفتوح.

من هنا، إنّه لَضلالٌ فاضح أن نجعل الصوم قائماً فقط على قطاعة عن الزفرين، والزفر وحب الأنا وعدم رؤية الآخر يعشعش في نفوسنا وفي سلوكنا.

"فنحن في المسيحيّة لا نتكلّم على حياة روحيّة فحسب، بل حياة كاملة حيث يتلاحم فيها الجسد والروح"

* مسيرتنا الصياميّة هي حج ملكوتي بعكس خروج إنساننا الأول. وعندما تذكر الكنيسة عبارة الأكل في ذكصا عشيّة السبت: « إن آدم بواسطة الأكل طُرح من الفردوس...» تعود لتوضّح مباشرةً المعنى الحقيقي لهذه العبارة فتقول على لسان آدم: «ويلي ماذا حلّ بي أنا الشقي، تجاوزت وصيّة واحدة لسيّدي فعدمتُ كلّ صنفٍ من الخيرات».

وهنا بيت القصيد، الالتزام بمشروع الله هو التزامٌ كاملٌ بكلّ وصاياه، وليس اختيار ما يناسبنا ومخالفتها ساعة ما نشاء.

فنحن مدعوون مع الله إلى إقامة شركة كاملة بكل ما للكلمة من معنى، وكلّ مخالفة هي زنى أي فسخ للشركة.

فمشروع الصوم المترافق بالصلاة والتركيز على الخالق والابتعاد عن الجري وراء الشراهة والملذّات الفارغة والأنانية التي تؤذينا جسدياً وروحياً، يحرّرنا من عبوديّة حب الذات التي هي الخطيئة الأعظم، وهذا ما يأتي عليه إنجيل أحد الغفران من نقاط لازمة: الغفران والاتّضاع.

* وهكذا مع غروب أحد الغفران (أي الأحد مساءً) تعلن الكنيسة بدء الرحلة.

فبعد ترتيل المزمور «يا ربّ إليك صرخت...» ومن ضمن قطع التريودي ترتّل: «هلمّ نبادر إلى تذليل البشرة بالإمساك إذ نحن مقبلون نحو مشهد الصيام الإلهي الغير المُعاب ونسأل الرّب مخلّصنا بالدموع والصلوات...» و«أبتهل إليك (يا ربّ) أن تطهّرني بوابل التوبة وتنيرني بالصيام...» وأيضاً:«لنبتدينّ في أوان الصيام بحبور باذلين ذواتنا للجهادات الروحانيّة وننقِّ النفس ونطهّر الجسد صائمين ...»


eglise فهذه الصلوات كلّها تركّز على معنى الصيام الحقيقي. وأجمل ما في خدمة هذا الغروب ترنيمة البروكيمنن التي تأتي بعد يا نوراً بهيًّا وهي ترتّل بصوتٍ معبّر جداً: «لا تصرف وجهك عن عبدك، فإنّي حزين، فاستجب لي سريعاً، أنظر إلى نفسي وخلّصها» وتكملّها الستيخن: «خلاصك يا الله فليعضدني، فيبصر ذلك الفقراء ويفرحون».

صراخٌ نابع من عمق أعماق القلب: «فإنّي حزين».

* وإذا طرحنا السؤال: « ما هو هذا الحزن؟» لأدركنا أنّه ابتعاد الإنسان عن الله، عن السلام وعن النور. وعكس النور هو الظلام. أي الإنسان يقف أمام المجد الإلهي وعظمته ولا يستطيع الدخول إليه إلّا إذا لبس أسلحة النور، كما قالت رسالة هذا الأحد (رو11:1-4:14). وأسلحة النور هي الفضائل ونِعم الرّب، ولا ينالها الإنسان إلّا بالتوبة والإقرار بخطاياه والرجوع إلى الله.

وتعاد الترنيمة خمس مرّات. تنّهدات تعبّر عن حالة بؤس الخطيئة الساكنة فينا.

ولأوّل مرّة تُقرأ صلاة القدّيس أفرام السرياني مترافقة والسجدات.

وفي نهاية الغروب يتم الاستغفار الجماعي ومن مترّأس الخدمة أولاً.

* خلاصة: هدف الصوم، الذي هو أوّل وصايا الرّب منذ خلق الإنسان، الشركة الكاملة مع الله جسداً وروحاً، قولاً وفعلاً.

* إذ من يستطيع أن يضبط نفسه أمام شهيّة النظر وبهجة العين يستطيع لجم ذاته ليسير سيرةً مستقيمة مع الرّب.

قد نجد بعض المشقّة أوّل الصيّام ولكن نهايته نور وقيامة لا محالة، عندئذٍ تنقلب كلّ المقاييس لتصبح النهاية بداية ملكوتيّة لا تعرف إنتهاء.

إعداد موقع البطريركيّة - المراجع: الصّوم الكبير للأب الكسندر شميمن - زمن الصوم للأب ليف جيلله - كتاب التريودي، المنشورات الأرثوذكسيّة.