عظة البطريرك يوحنا العاشر في رأس السنة الميلادية،…



2020-01-01

a334b0399003f11069daf227758d5607
عظة البطريرك يوحنا العاشر
في رأس السنة الميلادية، الكاتدرائية المريمية بدمشق
١ كانون الثاني ٢٠٢٠

أيها الأحبة،
في أول أيام السنة تتجه أنظارنا إلى رب الزمان يسوع المسيح مولوداً في مغارة بيت لحم. تتجه أنظارنا إلى الأم العذراء مريم، إلى تلك الفتاة التي كانت تحفظ كل هذه الأشياء في قلبها كما يقول الإنجيلي. تتجه أعين النفس والجسد إلى حدث الميلاد، إلى بساطة هذا الشرق الذي أبصر مخلصه ومخلص العالم مولوداً في مزود فقير وفي عتمة المغارة. تتجه إلى يوسف الصدّيق الحائر أمام العجب الحادث. تتجه الأبصار إلى محفل الرعاة الأرضيين يسمع من أفواه الملائكة: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة.

ها المخلص مولودٌ من أجل خلاص البشر. كلمة الله الكائن قبل الأزل يرتضي من أجلنا بداءة زمنية ويولد طفلاً من مريم البتول. ولميلاده تفرح البسيطة بأسرها. يسوع المسيح النارُ الإلهية يجتذب من نار فارس قلوب المجوس لتسجد لشمس الحق والبر. ومن فيض مجده يضيء النجمَ لينير دربهم إلى جوار المدينة المقدسة. الطفل الإلهي آثر التنازل من علياء مجده ليستدفئ في رحم البتول الطاهرة ويضطجع في مزود المحبة. وإذ نحتفل بميلاده في كل عام، نجدد العهد معه وله أن نعيش له ونصبغ كيان حياتنا بتعاليمه ونبتدئ عامنا الجديد لا بمجرد استذكار ميلاده منذ ألفي عام بل بترك باب قلبنا مفتوحاً كي يولد هو فيه وينضح جنبات النفس بروحه القدوس.

المسيحية في هذا الشرق وفي العالم مدعوة على مثال سيدها أن تكون مشكاة نور. المسيحية مسحت أجدادنا منذ ألفي عام بنور المسيح وجازت إلينا ومخرت عباب التاريخ فاجتازت ألفي عام بدفء الكلمة وببساطة الروح. والإنجيل كتبه أناسٌ عاينوا الحق وسكبوا شهادتهم عنه على صفحات القلوب قبل أن يكتبوها على الأوراق. سكبوها في حبر القلوب وفي كيانها قبل أن يخطوها حبرَ أوراقٍ وكتبٍ. ونحن كمسيحيين مدعوون أن ننقل بشرى الخلاص عبر صالح الأعمال وعبر لُحمتنا ومحبتنا بعضنا لبعض. وهذا ما ميز الجماعة المسيحية الأولى. الرسل صيادو السمك أفحموا الخطباء عبر مقولة واحدة وهي المحبة؛ هذه المحبة وهذه الطيبة الرسولية وهذه البساطة الإنجيلية. وهذه المحبة المتبادلة التي فاحت من مجتمعاتهم كانت جواز عبورهم إلى قلوب كثيرين لم يعرفوا يسوع المسيح شخصياً. وإذ نقول هذا نتأمل كيف وصلتنا بشارته أصيلةً وصافيةً بعد ألفي عام. لقد شربنا محبته واصطبغنا به معتمدين باسمه والمعمودية هي أولاً وأخيراً صبغةٌ ووشاح حياة وكيان. وليست مجرد انتماء اسمي لفظي.

أيها الأحبة،
نصلي اليوم من أجل سلام سوريا التي نراها ونريدها واحدةً موحدة من أقصى شمالها إلى جولانها المحتل ومن أقصى شرقها إلى غربها. لقد تاقت سوريا إلى سلام ابن بيت لحم. وهي مصممة بسواعد أبنائها أن تعيد السلام إلى كل شبرٍ من أراضيها. إن إرادة الحياة في هذا البلد لم تمت ولن تموت. لقد قاسى السوريون التهجير والقتل والعنف والإرهاب وغيره من التبعات التي أرخت بظلها حرباً ما انطفأت نارها منذ أكثر من ثماني سنوات. ونحن كمسيحيين قد دفعنا أيضاً من دم أبنائنا ليبقى قنديل حضورنا وهاجاً في هذا الشرق ولنبقى ههنا ثابتين في أرضنا. لقد بذلنا من أرواحنا وأعمارنا لنبقى ههنا حيث زرعنا الله في هذه البسيطة. نحن مزروعون ههنا منذ فجر المسيحية وسنبقى ههنا ما أعطانا الله من قوة لنصل إلى فجر قيامتنا لنلاقي مجده القدوس. وإن خير ما يفعله العالم بدلاً من التغني بمنطق الأقليات والأكثريات هو رفع الحصار الاقتصادي الخانق الذي يستهدف بلادنا وشعبها من كل الأطياف بما فيها سوريا ولبنان، وعدم الكيل بمكيالين من خلال إصدار قوانين لا تعتبر كرامات الشعوب كقانون " قيصر" الأخير.

81548112_2093129420790760_3274409489385652224_o ونشخص أيضا، في هذا اليوم المُبارَك، إلى لبنان الجريح حاملين شعبه، كلّ اللبنانيين، في دعائِنا ليتلطف الربّ بمعاناته ويزيح عن كاهله وطأة ما يعيشه من أزمات اقتصادية ومالية وسياسية واجتماعية خانقة ويهدّد وحدة أبنائه وسيادته وحقوقه في ثرواته الوطنية، ويُلهِم مسؤوليه الى ما يحقّق أمنيات شبابه في وطنٍ مُفرحٍ جامِعٍ لأبنائه محرّرٍ من أسر المصالح السياسيّة الشخصيَة الضيّقة له، ومِن القيود المذهبية والطائفيّة التي لطالما كانت عائقًا أمام ما يتقدّم بلبنان ويصونه من التشنّجات والعثرات الكُبرى والأزمات. إنّنا، وتزامنًا مع إحيائنا لعيد القديس باسيليوس الكبير خادم الفقراء والمحتاجين نلفت ذواتنا، رعاةً للكنيسة وأبناء، إلى أهميّة التعاضد والتآزر والشركة فيما بيننا في سبيل التخفيف من ألم الفقراء والمحتاجين، كما نعيد التأكيد على ضرورة تآزر الجميع للعبور بلبنان إلى مرسى الامان وتحقيق أماني اللبنانيين في أبسط مقومات حكم الأوطان والنهوض من الضائقة الاقتصادية وضمان مقتضيات العيش الكريم وإدانة الفساد والهدر العام. كما نجدها مناسبةً للتذكير بضرورة التعالي عن الجدل والتجاذبات والمصالح الشخصية لتسريع تأليف حكومة إنقاذ استثنائية تحاكي تطلعات اللبنانيين وتكون قادرة على الاستجابة لرغبة فخامة رئيس الجمهوىية بمحاربة الفساد وانتشال الوطن وأبنائه من الضائقة الحالية وعلى وضع خطة للنهوض به وصوغ رؤية لمستقبله ودوره في العالم.

نصلي من أجل كل من في ضيق. نصلي من أجل كل مهجر ويتيم ومشرد ومن أجل من قسا عليهم وجه الزمن فتاقوا إلى سلام الميلاد. نصلي من أجل المخطوفين، كل المخطوفين ومنهم أخوانا مطرانا حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي جرحُ كنيسةِ أنطاكية النازف المخطوفان منذ ما يقارب سبعة أعوام.

صلاتنا من دمشق من أجل الجولان المحتل. صلاتنا من أجل أهلنا الصامدين فيه في ظل الاحتلال وفي كل أرض محتلة. صلاتنا من أجل فلسطين وشعب فلسطين. صلاتنا من أجل بيت لحم والقدس التي كانت وستبقى عاصمة فلسطين ومحجة قلوبنا مسيحيين ومسلمين إلى مراحم الله أبي الأنوار رب السماء والأرض.

صلاتنا من أجل العراق ومن أجل كل بقعة من هذا الشرق ودعاؤنا نرفعه من أجل السلام في العالم أجمع.

ولأبنائنا في الكرسي الأنطاكي في الوطن وفي بلاد الانتشار طيبُ محبّةٍ من مزود المحبة وبركةٌ رسوليةٌ من كنيسة الرسولين بطرس وبولس مؤسسي كرسي أنطاكية الرسولي. بارككم الله جميعاً وأجزل عليكم من بركاته السماوية.

في مطلع العام الجديد، ندنو من طفل المغارة ونتأمل ذاك الوجه الباسم وسط أفراح وأتراح العالم. نتأمل ذاك الساكن وسط عاصف الحياة. وننظر جبروت صمته الذي تترنح أمامه ضوضاء العالم. ننظره بسلام القلب ونتأمل ميلاده جوقاً واحداً ونزرع إنجيله في كياننا ليولد هو فينا فنرنمَ له بشفاه القلوب والأفواه:

سبحوا الرب القديرَ في الأعالي للدوامْ
إنّ في الناسِ السرورَ وعلى الأرضِ السلامْ

كل عام وأنتم بخير.