كتاب البطريرك أغناطيوس الرابع الإنسان وميراثه



2024-03-05

 

ملء المحبّة هو لغة الثّالوث والصّليب، وهو لغة إفراغ الذّات الذي يسمح بوجود الآخر. إنّ ملء الحياة هو لغة الألوهة المتأنّسة، بحيث لا يبقى شيء إنسانيّ في سعي الغرب أو شيء إلهيّ في تأمّل الشّرق غريبًا عن المسيحيّين. وربّما استطعنا القول إنّ المسيحيّة لطالما تفكّرت في الله وقدّمته على الإنسان، أمّا الحداثة فقد تفكّرت في الإنسان أوّلاً مقدّمة إياه على الله. ثمّ أتى زمن الألوهة المتأنّسة، أو زمن الرّوح والحريّة.

البطريرك إغناطيوس الرابع (مواقف وأقوال 45)

 

مقدّمة الكتاب:

أربع وثلاثون سنة من التّاريخ المعاصر للكرسيّ الرّسوليّ الأنطاكيّ المقدّس انطبعت برؤية البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم الدّائم الذكر (۱۹۷۹ - ۲۰۱۳). مسيرته كإنسان مسيحيّ ومن ثمّ كراعٍ للكنيسة؛ تعليمه، إنجازاته على الصّعيد المؤسّساتيّ، مناقبه من أجل تمهيد سبل التلاقي الدينيّ والإنسانيّ وتأسيس منابر الحوار وإعلاء صوت الشّهادة المسيحيّة، مع حضوره السّاهر والهادئ والغنيّ في مجالات العلم والفكر، كلّ هذه جعلت من البطريرك إغناطيوس " بطريرك الوفاق ".

قارب الرعاية من حيث هي منهاجُ تلاقٍ وبشارةٍ، وتعهّدٌ للإنسان في كلّ ظروفه وأحواله. سهره على إبقاء المسيحيّة المشرقيّة المتجذّرة في موطنها نورًا للعالم وملحًا للأرض، كان له الإسهام الجسيم في تثبيت رؤية الشهادة للإنجيل وأسس البقاء والاستمرار في أرض بلاد فيها "صيغت الأناجيل" و " نشأ الرّسل ". وقد أدّى به هذا الحرص إلى إطلاق ورش العمران الكنسيّ، العباديّ واللاّهوتيّ، التربويّ والأكاديميّ الجامعيّ بما يضمن فرصًا وآفاقًا للعمل من أجل مستقبل أفضل.

عاصر في خدمته أزمات الشّرق الأوسط الكبرى في تداعياتها السياسيّة ومآسيها الإنسانيّة فأضحى "صوتًا صارخًا " في عالم تصحّر الأنظومات الإيديولوجيّة والأنظمة التوتاليتاريّة التي شلّت المنطقة وسعت إلى تسيير مصيرها. وكان الشّاهد الشّجاع أنّ يسوع المسيح، المصلوب والقائم من بين الأموات، هو وحده سيّد التّاريخ. تطلّعه نحو الإنسان " الشّخص "، هاجس " الآخر " لديه، جعله متمايزًا بمواقفه الكنسيّة الحكيمة التي طبعت الحياة السياسيّة في الدول العربيّة ومجتمعاتها وأضحت مرجعًا وطنيًا راسخًا تلجأ إليه الجهات المتنازعة.

ما لا شكّ فيه أنّ الخاصّيّة المميّزة لفكر البطريرك الرّاحل هي كونه لاهوتًا للمواجهة، المواجهة الواقعيّة لأحوال الإنسان والمعطيات المحيطة بعيشه هنا وثمّة، والمواجهة المؤمنة بالإله المتجسّد والمتمحورة حوله، والمتسلّحة " بالرّجاء وتعزية الكتب " والعمل الدؤوب من أجل الخدمة والبنيان في ثقة لا تتزعزع بقدرة الله وبمعونته، وبرحابة وانفتاح على القاصي والداّني.

لذا في مناسبة مرور سنة على انتقاله وحلول الذكرى الأولى لهذا الغياب، نظّمت بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس ما بين ٢ و ٤ كانون الأول ۲۰۱۳ مؤتمرًا جامعيًّا في دير سيّدة البلمند البطريركيّ، لدراسة شخص البطريرك إغناطيوس الرابع وفكره وميراثه الكنسيّ.

توزّعت البحوث المقدَّمة في المؤتمر على المحاور الفكرية الآتية:

* البطريرك إغناطيوس - الإنسان، وزمانه: تضمّنت إطلالة على المرحلة التاريخيّة المفصليّة التي نشأ فيها البطريرك إغناطيوس وخدم.

* التربية، التعليم، المقاربة الوعظية: بحثت نشاطه التربويّ الكثيف سواء في الرّعايا التي خدمها أو أشرف على خدمتها، أم في كتب التعليم الدينيّ التي ألّفها، أم في المدارس الأرثوذكسيّة، أم في الجامعة التي أسّسها.

* الفكر اللاهوتيّ: عرضت فكره بكون الكتاب المقدّس ملهمًا لهذا اللاهوتيّ والواعظ الأنطاكيّ، وبمحوريّة سرّ التجسّد في مقاربة الإيمان والعمل، وبأنثروبولوجيّة ترتكز على لاهوت " الشّخص " وعلاقته بـ " الآخر " كمجال لملاقاة المسيح، وبقيامة المسيح من حيث هي قلب البشارة المسيحيّة وباكورة قيامة الإنسان.

* الحضور الأنطاكي ّالأرثوذكسيّ، والمسكونيّ: تناولت حضور البطريرك في الحوارات الثنائيّة، وإسهامه في إطلاق ورش العمل على منابر التلاقي، أكان ذلك على الصّعيد الأرثوذكسيّ، أو على الصّعيد المسكونيّ لا سيّما مجلس كنائس الشّرق الأوسط ومجلس الكنائس العالميّ.

* الحضور المسيحيّ في المشرق: وبحثت في هاجس البقاء في أرض الأجداد التي منها خرج الإيمان الرسوليّ، وهاجس صون أنطاكية من حيث هي كرسيّ رسوليّ له فرادته في الهويّة الفكريّة اللاهوتيّة، وفي استشراف مستقبل الشّهادة المسيحيّة في العالم، ونبذ التطرّفات الإثنيّة، ومستقبل العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة التي جعلت من إغناطيوس الرابع " بطريرك العرب ".

* الكنيسة الرّعاية، عمل المؤسّسات: درست فرادة مقاربته الإكليزيولوجيّة سواء للاهوت الكنيسة، هويّةً ورسالة، أم في رؤية تجسيد العمل المؤسّساتي ورعاية شعب الله وصونه.

* الفكر الفلسفيّ: أظهرت خلفيّة البطريرك إغناطيوس الفلسفيّة وقراءته لتاريخ الإنسان ومآله تبرز في غير قليل من المواقف والأقوال وفي إمكان مخاطبة الجميع، " بحيث لا يبقى شيء إنسانيّ في سعي الغرب أو شيء

إلهيّ في تأمّل الشّرق غريبًا عن المسيحيّين ".

معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي

جامعة البلمند