شرح في الفيلوكاليّا



 تعريف:

كلمة فيلوكاليا ϕιλοκαλία كلمة يونانيّة تأتي من ϕιλόκαλος وتعني محبّة الجمال والحسن.

هي مُركّبة من كلمتين:
ϕιλό وتعني محبّة، و καλλος أي الحسن والجمال.
أستخدمت الكلمة عند الفلاسفة الإغريقيّين للدلالة على تذوّق الجمال من خلال حواس الإنسان بخاصة حاستي النظر والسمع وهي تختلف بين إنسان وآخر بحسب تذوّقه للفن، كما يمكن تطويرها بالممارسة على أساس الموهبة.

في المسيحيّة:

في المفهوم اللاهوتي هي محبّة حسن الله وجماله.

سُجّلت هذه الكلمة مسيحيًّا عند كلّ من القدّيسين غريغوريوس اللاهوتي وباسيليوس الكبير (القرن الرابع). وقد أستخدماها على مختارات لأوريجنّس من كتابه "المبادىء".

فيلوكاليا الآباء النسّاك: 

«Εις κοινήν των ορθοδόξων ωφελείαν»  فيلوكاليا الآباء النسّاك من أجل منفعة الأرثوذكسيّين العامة

هي اليوم مجموعة مقالات آبائيّة قام بترتيبها القدّيس نيقوديموس الاثوسي (١٧٤٩-١٨٠٩م) والقّديس مكاريوس الكورنثي (١٧٣١-١٨٠٥م).

هدفها الآساسي أن يُصبح الإنسان عاشقًا لله ويصلّي بلا انقطاع. (١ تس١٧:٥)

تضم كتابات من كبار القدّيسين أمثال أنطونيوس الكبير - اسحاق السوري - مكسيموس المعترف - يوحنا الدمشقي - يوحنا السلميّ - سمعان اللاهوتي الحديث - عريغوريوس بالاماس - مرقس الأفسسي...

 

مقدّمة:
الحسن أي الجمال محور خلق الله وهذه الكلمة ”حسن“ مذكورة في الآيات الأولى في الكتاب المقدّس في سفر التكوين:
”وقال الله: «ليكن نور»، فكان نور. ورأى الله النور أنّه حسن“ ( تكوين ٣:١).

وتأPainted-orthodox-icon-of-Jesus-Christ-Pantocrator-from-Sinai-Mountain-2خذ هذه كلمة حسن مداها عندما خلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم…. ورأى الله كلّ ما عمله فاذا هو حسن جدًا. (تكوين ٢٧:١-٣٧).

كون الله حسن لا بل كليّ الحسن وأكثر، فأتت هذه الكلمة لتعبّر عن الاتّحاد بالله واكتشاف حسنه وتَقبّل نِعمه لُتصبح نفوسنا حسنة وجميلة. 

هذ سرٌ كبير وفن الفنون يتخطّى الزمان والمكان ليضحى عشقًا ليس له نهاية ينتقل في المرء من مجد إلى مجد.

أي يُصبح الإنسان عاشقًا لله بكلّ قوّته وقلبه وإرادته وكيانه وحواسه ومشاعره. يُصبح كلّه واحدًا حسنًا يعكس وجه الله. 

 

كيف يُصبح الإنسان "حسنًا":

لا يمكن للإنسان أن يُصبح حسنًا إلّا بتحويل حبّه للأرضيات إلى حبّه للإلهيّات، حبّه للأشياء الفانية إلى حبّه للأشياء الأبديّة، حبّه للإنغلاق على ذاته إلى حبّه للإنفتاح على الأخرين، حبّه للأنانيّة إلى حبّه للعطاء، حبّه للتملّك إلى حبّه للملكوت، حبّه للكبرياء إلى حبّه للإتّضاع، حبّه للترف إلى حبّه للصلاة، حبّه للخطيئة إلى حبّه للفضيلة. 

هذا كلّه يتطلّب استبدال عشق بعشق آخر. حب بحب.

التخلّي عن العشق الفاسد والدخول في عشق الله، جمال الله اللامحدود، عندها تحديدًا نلمس وندرك أن لا جمال ولا محبّة إلا النازلة من فوق، وما نراه هنا ما هو إلا إنعكاس بسيط لما هو فوق. 

السعي الدائم والدؤوب إلى الاتّحاد بالله هو التفسير الحقيقي لكلمة نسك άσκηση أي المواظبة. وهذا ليس محصورًا بتاتًا بالرهبان والراهبات بل هي دعوة مفتوحة للجميع.

فنقرأ مثلًا ”وكانوا يواظبون على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات“ (أعمال ٤٢:٢).

 

الصلاة القلبيّة ”صلاة يسوع“ وتحقيق الجمال:

حالة الارتفاء هذه لا تبدأ فورًا بالصعود. بل على العكس تمامًا، هي تبدأ بالنزول والإنسحاق والرجوع إلى الذات والله، والدخول في سر الخالق الكامن في أعماق النفس. 

الدخول في أعماق النفس يجعلنا نكتشف ما قاله السيّد لنا:”ملكوت الله داخلكم “(لو٢١:١٧)                    

ويُطرح السؤال هنا: كيف نكتشف الملكوت داخلنا ونحن مهجّرين عن ذواتنا؟ 1459255_330052473799177_1275615924_n

غرباء في دنيا نفوسنا؟، جاهلين لأنفسنا؟، غير مدركين لحالتنا؟، قلبنا في مكان ورأسنا في مكان آخر. 

من الخارج نحن واحد ومن الداخل مجزئين. وأصعب معركة في هذه الحياة هي أن نتوّحد. 

السبيل الوحيد إلى الوحدة الداخليّة هي الصلاة الداخلية التي توصلنا إلى صلاة القلب وبالتالي إلى الصلاة النقيّة. ”ربّي يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني“.

هذه الصلاة تجعلنا نكتشف صمتًا داخليّا كبيرًا ينزل فيه العقل البشري إلى مستوى القلب ويرتفع القلب إلى مستوى العقل ويتحدّان بعضهما ببعضٍ فيستنير الذهن أي يستنير الإنسان ونصير بالكليّة للله، فندخل بحالة السلام والتعزية والطمأنينة.  

من هنا يستشف الإنسان حالة جمال يعجز عن تعبيرها فيبدأ التسبيح.  

هناك سكنى لله في النفس كاليوم الأول للخلق، حيث روح الله يرفرف فوق النفس أو بالأحرى داخل النفس.   

وقد دعى القدّيسون هذه بالهدوئية كما عبّر القدّيس سلوان الآسوسي عن ذلك بقوله:
"قمّة الصلاة الصمت” والقدّيس اسحق السرياني”الصمت لغة الدهر الآتي“.

هذا ما تعلّمنا إيّاه اوالدة الإله. كانت صامتة وقلبها يسبّح، فإنعكس على وجهها جمالًا إلهيًّا وصفاءً. 

هذه هي حالة القدّيسين الذين عشقوا الله وباتوا أيقونة إلهيّة.


الإنسان أيقونة إلهيّة:
من الخارج الإنسان لحم ودم ومصنوع من تراب إلاّ أن الله نفخ فيه من روحه وهذا يجعله موطنًا سماويًا، جذوره سماويّة ووطنه الأول هو السماء.    
وإذا قلنا أنّك يا إنسان من التراب وإلى التراب تعود يجب أن نقول أيضًا أنّك يا إنسان من الله وإلى الله تعود. 

ومن بحث في أعماق ذاته بتوبة صادقة، وجد نفسه لا يمكنه أن يستريح إلّا في حضن الله. من هنا نقول الله يستريح في قدّيسيه والقّديسون يستريحون في الله.

1

طبعًا خلق الله الإنسان على صورته ودعاه بملء حريّته أن يكون على مثاله، لكن سوء استعمال الإنسان لحريّته أخرجه وأسقطه من حضن الله، وبالمقابل حسن استعماله للحريّة يرّده إلى السماوات. 

وهنا يكمن معنى الحريّة الحقيقية أي التحرر من الاهواء للإلتقاء بالسيّد La rencontre هاربين من الفساد الذي في العالم بالتحرّر من الأهواء لنكون شركاء الطبيعة الإلهية (ابط4:2).

ففي كلّ المعتقدات الله موجود ولكن في المسيحيّة الله تأنس أي تجسّد. 

وهنا نبدأ بعنوان جديد إسمه "التأنّس" أي "التشخصّن". أي ان الله هو إله شخصي. ويجب أن أجسّده في حياتي بملء حرّيتي.

ولكن كيف؟ بالوصايا، بالتعليم أو بماذا؟

في الحقيقة، بعيش هذه الحقيقة. وهنا لا نتكلّم عن تجسّده ومعجزاته وتبشيره فقط بل عن صليبه وقيامته. وهذا يعني الدخول في سر الصليب. هذا السر العظيم، هذا العبور. الإنتقال من الموت إلى الحياة.

فنحن بالآساس كائنات جميلة بالمعنى الإلهيّ والروحيّ للكلمة. 

قال القدّيس يوحنا الذهبي الفم:”القلب يدعو الله والله يسكن في القلب“.  

هذا عملٌ لا ينتهي. هو عملٌ متواصل.

ومعاينة الملكوت تبدأ من هنا، من هذه اللحظة بالتحديد فمع بولس الرسول نقول لأنفسنا:" استيقظ أيها النائم وقم من بين الأموات فيضىء لك المسيح”.

 

الأهواء:
ما سبق وسمعناه كلامٌ جميل، ولكن كيف يستيقظ الإنسان؟ وما هو العائق؟ العائق الأساسي هو الشرير الذي يستغل فينا هذه الأهواء ويحرّكها. فهذه الأهواء باللغة الروحيّة تدعى أمراض. 

ففي كلّ نفس منّا عدد لا يستهان به من الأهواء. 

لننتبه جيّدًا: عكس جميل قبيح. فإن كانت الفضائل تُعطي الجمال، الأهواء توّلد القباحة. ومن يطلق العنان لأهوائه يتخطى أشد الحيونات شراسةً ووحشية.  

أوّل الأهواء هو البحث عن الخلود خارج إطار الله ”الكبرياء“.

”الأنا“ المريضة والمائتة والمتسلّطة.

نظن أنّنا نهرب من الموت إلّا أنّه في الحقيقة الهروب من الموت يجعلنا نميت أنفسنا ونقتلها. والإنتصار الحقيقي على الموت هو الإلتصاق بسيّد الحياة الرّبّ يسوع المسيح.

فالنخاطب أنفسنا قائلين: أيّها الغبي الله يعطيك الحياة الأبديّة أمّا هذه الأرض تعطينا الدود والتراب. 

حفظ القلب والسهر الروحي: 

هناك سهر وسهر. سهر مع الله وسهر الدنيا. فالإنسان مدعو أن يسير إلى القداسة، وهذا يتطلب سهرًا من نوع آخر. والسهر مع الله يجعل الظلمة نورًا. أنظروا وجه القدّيس في الأيقونة: سلام ونور. أجمل حالة يصل إليها الإنسان هي:"أنا نائم أمّا قلبي فمستيقظ”. (نشيد الأنشاد ٢:٥)

 Candles1

السير إلى القداسة: 

الإنسان مدعو أن يعكس جمال الله في حياته، وعيش هذا الجمال يؤول به إلى التأله.

الوجه هو وجه الله، وهو وجه يتم "ترميمه" أي تنقيته ليستعيد وجه الله بعد زن سقط وتشوّه في الخطيئة. 

والإنسان مدعو أيضًا أن يكتشف مكانته الأولى، والأصح القول حالته الأولى. 

ملك الجنة هو، لذا هو مدعو لتحقيق الحالة الفردوسية في كلّ تفاصيل حياته. يقول القدّيس غريغوريوس النيصصي: "المسيحية هي الحياة الإلهيّة" فالبعد عن الله هو ظلام وقتام. من هنا نجد الأيقونة دائمًا مذّهبة رمزًا للملكوت. صحيح أن الإنسان الترابي يحمل علامات السقوط، ولكن هو على صورة المجد الذي لا يفنى. وإن تجرّد الإنسان من الإنحراف يصبح ظهورُا الهيًا."Depouille de ses iniquites l’homme est une theophanie de Dieu" . 

ويشرح القدّيس غريغوريوس النيصصي ذلك بكلمات من ذهب فيقول: في البدء أزهرت الطبيعة الإلهية، فطالما كانت تسكن في الفردوس كانت ترتوي من مياه الينابيع الإلهية. ورقها كانت فضيلة عدم الموت، لكنّ شتاء التمرّد وعدم الطاعة جفّف أغصانها وسقطت الزهرة وإندثرت في الأرض. وعرّي الإنسان من الجمال الذي لا يموت وعشب الفضائل السماويّة جفّ، وهبّ صقيع الإبتعاد عن الله بمقدار ما كبر الإنحراف والخطيئة. أهواء نمت كالطفيليات من جراء النفحات العدائية وغرقت النفوس. وفجأة لاح الربيع بقدوم ربيع نفوسنا، وظهر في وسطنا من زجر أمواج البحر المرتفعة لتعود طبيعتنا تزهو وتزهّر من جديد.

خلاصة: 

صحيح أن الله تجسّد وهو لاحق لخلق الإنسان، إلاّ أن آدم الكامل سابق لآدم وهو الرّبّ يسوع المسيح الذي آدم الأوّل.

من هنا تُظهر أيقونة الخلق وجه آدم مطابق لوجه المسيح الخالق. فوجه المسيح هو وجه الوجوه، هو “الوجه".

ففي عيون كلّ قدّيس يطل علينا وجه المسيح، ووجه المسيح هو نور.
ومن خلال هذا النور تعلو الترانيم وتبتهج التسابيح ويشّع الجمال، جمال الخالق على بني البشر ليعلن عاليّا: ” نور المسيح يضيء للجميع“.