“مجد الله هو أن أرى في الآخر فردوسي، وأن ينجلي…



2018-01-01


عظة البطريرك يوحنا العاشر

في رأس السنة الميلاديّة، الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق ١ كانون الثاني ٢٠١٨

أيها الإخوة،

من بركات طفل المغارة نطل عليكم وعلى العالم إطلالة المحبّة، ومن مزود بيت لحم زادُ محبّةٍ من الطفل يسوع إلى البشرية جمعاء التي ربطت تاريخها بميلاده. 

في رأس السنة الميلاديّة،

دعوتنا أن نَذْكر ذاك الطفل البهيّ يسوع المسيح الذي اكتسح البشريّة بمحبّته.

دعوتنا اليوم أن نذْكر رسالته السماويّة التي سكبها الملائك في مسامع الرعاة: 
المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة.

إن مجد الله في علاه يزدان ويقترن بالسلام على الأرض، ومجده تعالى ينعكس وينجلي سلاماً ومسرّة وفرحاً في قلوب البشر. 
مجد الله يعتلن على الأرض عندما تستضيء النفوس ومعها الوهاد والجبال والأودية ببشرى المحبّة لكل الناس. 
مجد الله قلوب ترتع في السلام ومجده تعالى فرحُ أخي الإنسان. 
مجد الله وسروره هو أن يكون السلام في الأرض. 
مجده هو أن أرى في الآخر فردوسي، وأن ينجلي حبّي لخالق السمواتحبّاً لأخي في الإنسانيّة.

وإذ نبتدئ سنتنا الجديدة، يطيب لنا أن أتأمّل وإيّاكم كيف جمع اليوم الكنسيّ ذكرى خِتانة الرّبّ بالجسد وذكرى القدّيس باسيليوس رئيس أساقفة كبادوكيّة. 
اليوم يقترن تواضع الرّبّ بعظمة باسيليوس الكبير أحد أكبر آباء القرن الرابع. 
اليوم تجمع الذكرى تواضع الرّبّ المتنازل والمختتن حسب شريعة تلك الأيّام وتواضعَ القدّيس باسيليوس الذي شرب من مَعين الفلسفة لكنّه تدرّع بإنجيل الصيّادين.

بتواضعه اقتبل الرّبّ خِتانة الجسد ليسمو بالبشر إلى الفردوس، 
وبتواضعه قبِل باسيليوس خِتانة الفكر بالتواضع والتقوى ليسمو برعيّته شكراناً. 
بتواضعه مسح يسوع الرسل بروحه وجعلهم صيادي الناس، وبالتواضع مسح باسيليوس ذاته وأضاف إلى العلوم العالمية إنجيل الخلاص فأنبضه في قلوب كثيرين.

هو التواضع إذاً الذي يختبئ اليوم بين ثنايا هذا اليوم الجليل. وكأن الكنيسة تقول لمسيحيّ هذا اليوم: إن ختمك بالمسيح يكتمل عندما تسلك في التواضع.

والمثال واضح جلي.

الإله يتّضع ليسمو بجبلته كلّها وليصبغ البشريّة وتاريخها باسمه وقدّيسه العظيم باسيليوس الملتحف بكل علوم الدنيا، يتّضع على مثال سيّده، ويفتح بإنجيله قلوب الناس في كبادوكية والمسكونة، وينشر عبق قداسته إلى جيل فجيل. 
القدّيس باسيليوس الكبير الذي نعيّد له اليوم مثالنا لنطعّم المعرفة النظريّة بالتقوى والتواضع.

هو مثالنا لنغرس التواضع في ذُرى المعرفة، ونشتل روح الانجيل والمحبّة في قلب كلّ لاهوتٍ تنظيريّ.

وما أحوجنا إلى مثال باسيليوس في زمن تغلي فيه وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها بالنظريّات المحض، وتفتقر في آن معاً وفي من الأحيان إلى وداعة باسيليوس وبساطة أولئك الرسل الجليليين وتقواهم، وهم الذين اكتسحوا العالم بقوّة المحبّة وخفر التواضع كما ببلاغة الأقوال واللاهوت.

نحن على فاتحة عام جديد نصلّي أن يحملَ الخيرَ لهذا الشرق الجريح الذي يعبر جلجلة آلامٍ ستنتهي بفجر القيامة.

صليب الشرق من صليب المسيح، ونزيف الشرق ومن ضمنه هجرة أبنائه هو حربةٌ تنخز جنب المسيح إلى أيامنا.

ومجد الشرق المسيحيّ هو من مجد شهادة المسيحيين ليسوع المسيح، وهي شهادة حياة وشهادة محبّة وأصالة وعراقة إيمان ورسوخ في الأرض. 
نحن في مطلع عام جديد وقلبنا وصلاتنا وبخورنا من أجل السلام في سوريا الواحدة الموحّدة. 
نصلّي أن يجد منطق المصالحة سبيلاً إلى قلوب الجميع، وأن يعلو صوت السلام على قعقعة الحرب والعنف والإرهاب والتكفير. 
لقد آن للحروب أن تهدأ وأن ينعم إنساننا بالسلام. 
لقد آن الوقت أن يُرفع الحصار الاقتصادي الذي يستهدف الأبرياء في لقمة عيشهم.

ليس من ماضينا ولا من حاضرنا كلّ ما شهدناه من عنف وإرهاب وخطف. 
وما خطف مطراني حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي، والتكتّم المريب عن مصيرهما، سوى لطخةِ عارٍ في جبين الحق.

صلاتنا من دمشق من أجل لبنان وخيره واستقراره.

صلاتنا من أجل أن يبقى وطناً للسلام والمواطنة الحق والعيش المشترك بين كلّ أطيافه.

ومن هنا دعوتنا لصون الحياة الدستوريّة فيه، والتزام اجراء الاستحقاقات في أوانها ومنها الانتخابات النيابيّة، وتشّجيع منطق الحوار للخروج من سائر الأزمات ومنعكساتها.

صلاتنا ودعاؤنا من أجل خير وسلام هذا الشرق بكلّ بلدانه. 
صلاتنا من أجل فلسطين وشعبها الجريح وقدسها بكل مقدساتها. 
صلاتنا من أجل مدينة الصلاة التي تأبى ونأبى أن تكون سلعة في سوق المصالح.

القدس هي محجّتنا من كلّ الأديان إلى رحمانيّة الله. 
صلاتنا من أجل العراق ومصر وكلّ بقعة من الشرق.

لأبنائنا في الكرسي الأنطاكي في الوطن وبلاد الانتشار، سلامٌ بالمسيح يسوع، وبركةٌ رسوليّة من كرسيّ الرسولين بطرس وبولس، ومعايدة من القلب إلى القلب.

فليُدم الله مراحمه في قلوبكم ويعطِكم من مَعينه كلّ بركة ونعمة.

والشكر للإعلام المرئي والمسموع الذي نقل من دمشق صوت سلامٍ وقربانَ تسبيحٍ لربّ السموات وأسكنه في مسامع وقلوب الناس.

أعطنا يا طفل المغارة سلام الملائكة وفرح الرعاة.

وأهلّنا أن نرنّم لك في الموسم الميلاديّ الحاضر، ونضم صوتنا جوقاً واحداً مع ناظم التسابيح قائلين:

"هلمّوا يا مؤمنون، نفتح كنوز القلب بنشاط، ونقدّم للمسيح أعمالاً صالحة، إيماناً ورجاءً ومحبّةً بمثابة الذهب واللبان والمر. هاتفين نحوه بصوت الملائكة: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة، للرّب الآتي ليخلّصنا"

له المجد والرفعة أبد الدهور آمين.

#يوحنا_العاشر